15ـ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾

15ـ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾

15ـ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سُورَةُ المُدَّثِرِ مِنْ أَوَائِلِ السُّوَرِ التي نَزَلَتْ في العَهْدِ المَكِّيِّ بِالاتِّفَاقِ.

روى الإمام البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتَاً مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُـئِـثْتُ ـأَيْ خِفْتُ ـ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَاهْجُرْ﴾ ـ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِّجْزُ الأَوْثَانُ ـ  ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وَتَتَابَعَ».

وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ ـ قَالَ فِي حَدِيثِهِ ـ: «فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتَاً مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسَاً عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقَاً، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ ـ وَهِيَ الْأَوْثَانُ ـ قَالَ: «ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ».

﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾:

قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ يَعْنِي: يَا أَيُّهَا المُتَدَثِّرُ بِثِيَابِهِ المُتَغَطِّي بِهَا، قُمْ نَاهِضَاً لِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّكَ، هَذَا الخِطَابُ في ظَاهِرِهِ بَسِيطٌ، وَلَكِنَّهُ في الحَقِيقَةِ بَعِيدُ المَدَى وَالغَايَةِ، قَوِيُّ الأَثَرِ وَالفِعْلِ في الحَقِيقَةِ، فَغَايَةُ القِيَامِ بِالإِنْذَارِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدَاً مِمَّنْ يُخَالِفُ اللهَ تعالى وَيَعْصِيهِ إِلَّا وَيُنْذِرُهُ بِالعَوَاقِبِ الوَخِيمَةِ غَيْرِ السَّارَّةِ.

وَالإِنْذَارُ بِعِقَابِ اللهِ تعالى يَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ بَعْدَ تَبْلِيغِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْرِيفِهِ لَهُمْ بِأَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ، وَدَعْوَتِهِمْ للإِيمَانِ بِاللهِ تعالى بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ.

﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾:

قَوْلُهُ تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ يَتَضَمَّنُ في دَاخِلِهِ أُمُورَاً عِدَّةً، تَجِبُ عَلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُومَ بِهَا قَبْلَ الإِنْذَارِ، مِنْ هَذِهِ الوَاجِبَاتِ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ وَشَرْحُهَا، مَعَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهَا وَصِحَّتِهَا، وَأَنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ وَاجِبَهُمْ تُجَاهَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يُبَشِّرَهُمْ بِالأَجْرِ العَظِيمِ الذي أَعَدَّهُ اللهُ تعالى لِمَنِ اسْتَجَابَ للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ جَنَّاتٌ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ يُنْذِرُهُمُ العَذَابَ الأَلِيمَ الخَالِدَ المُقِيمَ في نَارِ جَهَنَّمَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا للهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

مِنْ هَذَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا عُقُوبَةَ إِلَّا بِتَجْرِيمٍ، وَلَا تَجْرِيمَ إِلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ إِلَّا بِإِعْلَامٍ، وَهَذَا هُوَ الإِنْصَافُ الذي جَاءَ بِهِ شَرْعُنَا الحَنِيفُ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولَاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾.

فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ، فَحَتَّى لَا يَحْتَجَّ قَائِلٌ: ﴿رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولَاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

فَهَا هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. بَلِّغْ وَبَشِّرْ وَأَنْذِرْ وَأَمْهِلْ حَتَّى يَعْلَمَ الجَمِيعُ ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

فَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَاً﴾. وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾. يَعْنِي: قُمْ يَا رَسُولَ اللهِ إلى أَدَاءِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ التي اصْطَفَاكَ اللهُ تعالى لَهَا، وَحَمَّلَكَ مَهَمَّاتِهَا، وَمَنَحَكَ شَرَفَهَا، وَخَصَّكَ مِنْ قَوْمِكَ بِالوَحْيِ إِلَيْكَ، قُمْ يَا رَسُولَ اللهِ مُبَشِّرَاً وَدَاعِيَاً إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجَاً مُنِيرَاً.

أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْزِيَ عَنَّا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ الجَزَاءِ وَأَتَمَّهُ وَأَعَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ وَأَفْضَلَهُ؛ لَقَدْ أَنْذَرَ.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 14/ جمادى الأولى /1441هـ، الموافق: 9/كانون الثاني / 2020م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  تفسير القرآن العظيم

05-11-2020 1729 مشاهدة
26ـ ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ إِشَارَةً إلى المُعَذَّبِينَ في نَارِ جَهَنَّمَ، حَيْثُ يُشْرِفُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ في سَقَرَ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ المَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ... المزيد

 05-11-2020
 
 1729
30-10-2020 1877 مشاهدة
25ـ ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾

بَعْدَ القَرَارِ النِّهَائِيِّ الذي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ في حَقِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، وَفي حَقِّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ تَفْكِيرٍ وَتَقْدِيرٍ وَتَرَيُّثٍ ... المزيد

 30-10-2020
 
 1877
30-10-2020 1528 مشاهدة
72ـ ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾

إِنَّ حَالَةَ الكِبَرِ هِيَ الحَالَةُ التي يَحْتَاجَانِ فِيهَا إلى بِرِّ الوَلَدِ، وَذَلِكَ لِتَغَيُّرِ الحَالِ عَلَيْهِمَا بِالضَّعْفِ وَالكِبَرِ، لِذَا أَلْزَمَ الشَّارِعُ في هَذِهِ الحَالِةِ مِنْ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا ... المزيد

 30-10-2020
 
 1528
22-10-2020 1726 مشاهدة
24ـ ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾

التَّفْكِيرُ هُوَ العَمَلُ البَدَهِيُّ للعَقْلِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ مِنْ وُجُودِ عَقْلٍ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ، لِأَنَّ العَقْلَ المَشْلُولَ لَيْسَ بِعَقْلٍ، بَلْ هُوَ جِهَازٌ مُعَطَّلٌ، وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. ... المزيد

 22-10-2020
 
 1726
15-10-2020 2224 مشاهدة
23ـ ﴿كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا﴾

لَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَاتُ أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ قَدْ أَدْرَكَ عَظَمَةَ مَا سَمِعَ مِنْ آيَاتِ القُرْآنِ المَجِيدِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَوْلِ البَشَرِ، وَعَبَّرَ عَنْ دَهْشَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ... المزيد

 15-10-2020
 
 2224
08-10-2020 1954 مشاهدة
22ـ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ (3)

يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعالى في كِتَابِهِ العَظِيمِ في سُورَةِ المُدَّثِّرِ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾. هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللهِ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿ذَرْنِي ... المزيد

 08-10-2020
 
 1954

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3234
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424570543
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :