39ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية (3)

39ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية (3)

39ـ حال أهل البرزخ من حيث الأعمال التعبدية (3)

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

ثانيًا: إِنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ إِذَا طَالَ عُمُرُهُ وَبَقَاؤُهُ في الدُّنْيَا ازْدَادَ مِنَ الأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَعْمَالِ الطَّيِّبَةِ، التي تَرْفَعُ دَرَجَتَهُ وَتُقَرِّبُهُ إلى اللهِ زُلْفَى، كَمَا جَاءَ في سُنَنِ الترمذي وَقَالَ فِيهِ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ».

قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟

قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَسَاءَ عَمَلُهُ».

فَلَو كَانَ العَمَلُ الصَّالِحُ بِأَنْوَاعِهِ يَنْقَطِعُ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا بَعْدَ المَوْتِ لَمَا اخْتَارَتِ الأَنْبِيَاءُ صَلَواتُ اللهِ تعالى عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الانْتِقَالَ إلى الدَّارِ الآخِرَةِ، حِينَ خَيَّرَهُمُ اللهُ تعالى بَيْنَ البَقَاءِ في الدُّنْيَا وَالانْتِقَالِ إلى الآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ قَدْ فَوَّتُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْمَالًا صَالِحَةً بِاخْتِيَارِهِمْ.

فَقَدْ روى الشيخان عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ثُمَّ يُحَيَّا أَوْ يُخَيَّرَ». الحَدِيثَ.

فَالأَنْبِياءُ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ البَقَاءِ في الدُّنْيَا، وَبَيْنَ الانْتِقَالِ إلى الآخِرَةِ، فَلَو كَانَتْ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَنَحْوِهَا تَنْقَطِعُ بِالمَوْتِ لَاخْتَارُوا البَقَاءَ في الدُّنْيَا، لِيَسْتَمِرُّوا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَصُ النَّاسِ علَيْهَا، وَلَو أَنَّهُمُ اخْتَارُوا البَقَاءَ في الدُّنْيَا لَأُعْطُوهُ كَمَا يَدُلُّ الحَدِيثُ الشَّرِيفُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ ـ أَيْ: ضَرَبَهُ ـ فَفَقَأَ عَيْنَهُ.

فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ.

فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ.

قَالَ: أَيْ رَبِّ، ثُمَّ مَهْ؟

قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ.

قَالَ: فَالْآنَ، فَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» الحَدِيثَ.

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الحَدِيثِ كَلَامًا مُفُصَّلًا في كِتَابِنَا: (الإِيمَانُ بِالمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ) فَارْجِعْ إِلَيْهِ إِنْ شِئْتَ.

فَالأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ لَا يَنْقَطِعُونَ عَنْ عِبَادَاتِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ ـ أَيْ: بَعْدَ مَوْتِهِمْ ـ وَكَذَلِكَ مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ تعالى في الدُّنْيَا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالقِرَاءَاتِ وَالتَّهَجُّدَاتِ مِنْ عِبَادِهِ العُبَّادِ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُكْرِمُهُمْ بَعْدَ المَوْتِ بِالاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْقَ» الحَديث كما تَقَدَّمَ.

يَعْنِي: القَارِئَ في الدُّنْيَا المُوَاظِبَ عَلَى قِرَاءَاتِهِ، المُسْتَمِرَّ عَلَى تِلَاوَتِهِ في الدُّنْيَا، يُكْرَمُ بِالاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا في الآخِرَةِ، وَهَكَذَا المُتَهَجِّدُونَ وَالمُتَعَبِّدُونَ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَقَامِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْهُمْ.

وَأَمَّا العَمَلُ الذي يَنْقَطِعُ بَعْدَ المَوْتِ فَهُوَ العَمَلُ التَّكْلِيفِيُّ الدُّنْيَوِيُّ، أَيْ: الذي هُوَ مِنْ تَكَالِيفِ عَالَمِ الدُّنْيَا قَبْلَ المَوْتِ، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِالمَوْتِ لِفَوَاتِ أَوَانِهِ.

فَالفرَائِضُ التي تَرَكَهَا في الدُّنْيَا لَا تُقْضَى هُنَاكَ، والزَّكَوَاتُ التي لَمْ يُؤدِّهَا في الدُّنْيَا لَا تُؤَدَّى هُنَاكَ، وَالوَاجِبَاتُ التي تَرَكَهَا وَعِبَادَاتٍ أَهْمَلَهَا، وَالتَطَوُّعَاتُ التي قَصَّرَ فِيهَا، فَإِنَّهَا إِذَا مَاتَ فَاتَتْهُ، نَعَمْ إِلَّا مَا تَسَبَّبَ فِيهِ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالأُمُورِ النَّافِعَةِ قَبْلَ المَوْتِ، وَهَذَا التَّسَبُّبُ كَالصَّدَقَةِ الجَارِيَةِ، وَالوَلَدِ الصَّالِحِ الذي يَدْعُو لَهُ، وَالعِلْمِ الذي يُنْتَفَعُ بِهِ إلى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ، يَجْرِي عَلَيْهِ خَيْرُهُ.

كَمَا أَنَّ مَنْ وَرَّثَ عِلْمًا ضَارًّا، أَو تَسَبَّبَ في عَمَلٍ سَيِّئٍ، أَو سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً: فَإِنَّهُ بَعْدَ المَوْتِ يَجْرِي عَلَيْهِ إِثْمُهُ، وَإِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهِ، كَمَا جَاءَ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 26/ ذو الحجة /1442هـ، الموافق: 5/ آب / 2021م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 465 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 465
10-09-2024 457 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 457
15-08-2024 385 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 385
25-07-2024 562 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 562
11-01-2024 684 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 684
29-12-2023 653 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 653

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5701
المقالات 3236
المكتبة الصوتية 4880
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 424853626
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2025 
برمجة وتطوير :