كلمة شهر ذي القعدة 1444
201ـ تفقد قلبك
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَجَّ إلى بَيْتِ اللهِ تعالى الحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ الفَرَائِضِ التي فَرَضَهَا اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وتعالى بِهِمْ أَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً في العُمُرِ، مُقَيَّدًا بِتَوَفُّرِ شُرُوطِ الاسْتِطَاعَةِ.
الحَجُّ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرَكَانِهِ الجَلِيلَةِ العِظَامِ، بِهِ تُغْفَرُ الذُّنُوبُ، وَتُسْتَرُ العُيُوبُ، وَتُفَرَّجُ الكُرُوبُ، وَتُمْحَى الآثَامُ وَالذُّنُوبُ.
رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، هَذَا إِذَا حَجَّ بِإِخلَاصٍ، لِأَنَّ العِبَادَاتِ لَا تُعْطِي ثِمَارَهَا إِلَّا إِذَا كَانَتْ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.
هَذَا إِذَا حَجَّ بِإِخْلَاصٍ في قَوْلِهِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، أَسْأَلُكَ حَجًّا لَا رِيَاءَ فِيهِ، وَلَا سُمْعَةَ، وَلَا شُهْرَةَ، وَلَا مَدْحًا، وَلَا ثَنَاءً.
هَذَا إِذَا حَجَّ بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ للهِ تعالى، حَتَّى تَقَرَّ عَيْنُهُ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تعالى: ﴿قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِسِرِّ إِخْلَاصِهِمْ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِسِرِّ إِقْبَالِهِمْ عَلَى اللهِ تعالى، وَلَا يُرِيدُونَ إِلَّا وَجْهَهُ، وَتَقَبَّلَ بِهَذَا السِّرِّ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ، لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ لِوَجْهِ ذِي العِزَّةِ وَالجَبَرُوتِ وَالجَلَالِ.
تَفَقَّدْ قَلْبَكَ في كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْ تِلْكَ الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا أَكْرَمَكَ اللهُ تعالى بِزِيَارَةِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ لِأَدَاءِ هَذَا النُّسُكِ العَظِيمِ، فَتَفَقَّدْ قَلْبَكَ في كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْ تِلْكَ الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ، وَخَاصَّةً عِنْدَ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، انْظُرْ إلى تِلْكَ الأَرْضِ الطَّيِّبَةِ المُبَارَكَةِ التي شَرَّفَهَا اللهُ تعالى وَكَرَّمَهَا، وَاسْتَشْعِرْ عَظَمَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَذَكرْ وَسَطَ الزِّحَامِ أَنَّ هَذِهِ الأَرْضَ كَانَتْ وَادِيًا لَا أَنِيسَ فِيهِ وَلَا جَلِيسَ ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ لَا مَاءَ وَلَا نَبَاتَ وَلَا حَيَوَانَ، وَلَا إِنْسَ؛ وَلَكِنْ بِسِرِّ دُعَاءِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَارَ الذي تَرَاهُ ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.
وَتَفَقَّدْ قَلْبَكَ وَإِيمَانَكَ إِذَا سَعَيْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ المَرْأَةَ الضَّعِيفَةَ وَالطِّفْلَ الرَّضِيعَ، تَذَكَرِ السَّيِّدَةَ هَاجَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَطِفْلَهَا الرَّضِيعَ سَيِّدَنَا إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عِنْدَمَا وَضَعَهُمَا سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ المِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ البَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ، فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى المَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوَادِي، الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا.
فَقَالَتْ لَهُ: آللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟
قَالَ نَعَمْ.
قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا.
تَذَكَّرْ سَيِّدَنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَشُغْلَهُ الشَّاغِلَ نَحْوَ ذُرِّيَّتِهِ عِنْدَمَا دَعَا رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾. هَذَا هُوَ شُغْلُهُ الشَّاغِلُ.
حَتَّى عِنْدَ رَحِيلِهِ إلى اللهِ تعالى قَالَ مُوصِيًا أَبْنَاءَهُ بِذَلِكَ، قَالَ تعالى مُخْبِرًا عَنْهُ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عَاهِدِ اللهَ تعالى في تِلْكَ البِقَاعِ الطَّاهِرَةِ، أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا، سُلُوكًا وَعَمَلًا، مُسْتَسْلِمًا لِأَوَامِرِ اللهِ تعالى في سَائِرِ أَحْوَالِكَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوصِيَ أَوْلَادَكَ بِالإِسْلَامِ سُلُوكًا وَعَمَلًا.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
وَأَخِيرًا: اعْلَمْ عِلْمَ اليَقِينِ، أَنَّكَ إِذَا سَعَيْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَأَنْتَ مُسْتَحْضِرٌ هَذِهِ المَعَانِيَ بِأَنَّ دُعَاءَكَ مُسْتَجَابٌ، وَأَنَّ اللهَ سَيُفَرِّجُ كَرْبَكَ، إِذَا شَكَوْتَ إِلَيْهِ ضَارِعًا مُتَذَلِّلًا، وَوَضَعْتَ حَوَائِجَكَ بَيْنَ يَدَيِ الحَيِّ القَيُّومِ الذي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، بَيْنَ يَدَيِ الذي يَسْمَعُ كُلَّ نَجْوَى، وَإِلَيْهِ مُنْتَهَى كُلِّ شَكْوَى، بَيْنَ يَدَيِ القَائِلِ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا زِيَارَةَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الأحد: 1/ذو القعدة /1444هـ، الموافق: 21/ أيار / 2023م
ارسل إلى صديق |
هَا هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَدْ وَلَّى، وَمَرَّ كَالطَّيْفِ، وَكَانَ كَالحُلْمِ، فَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ رَمَضَانَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ التَّجَاوُزِ ... المزيد
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُهِلَّ عَلَيْنَا شَهْرَ رَمَضَانَ بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَ هَذَا الشَّهْرَ العَظِيمَ المُبَارَكَ شَهْرَ صُلْحٍ مَعَ اللهِ تعالى، وَشَهْرَ عَوْدَةٍ إلى رِحَابِهِ جَلَّ وَعَلَا. فَيَا مَنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ ... المزيد
مَا أَحْوَجَنَا اليَوْمَ في زَمَنٍ عَظُمَتْ فِيهِ المَصَائِبُ، وَحَلَّتْ بِهِ الرَّزَايَا، وَتَخْطِفُ الأُمَّةَ أَيْدِي حَاسِدِيهَا، وَتَنْهَشُهَا أَفْوَاهُ أَعَادِيهَا؛ الكَرَامَةُ مَسْلُوبَةٌ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ ... المزيد
الحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَدَارُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، وَدَارُ مَمَرٍّ لَا مَقَرٍّ، وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ... المزيد
مِنْ عَلَامَاتَ تَوْفِيقِ اللهِ تعالى لِعَبْدِهِ، أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَهُ اليَقَظَةَ وَالتَّنَبُّهَ في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا حَذِرًا مُحَاسِبًا نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الزَّيْغِ ... المزيد
مِنْ أَرْكَانِ الإِيمَانِ، الإِيمَانُ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ، وَالرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى بِأَحْكَامِهِ، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فِيمَا يَبْدُو ذَلِكَ. أَمَّا الرِّضَا عَنِ اللهِ تعالى في عَطَائِهِ ... المزيد