دروس رمضانية 1438هـ
40ـ التجارة الرابحة
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُسَافِرَ إلى رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ يُهَيِّئُ الزَّادَ الذي يُوصِلُهُ إلى رِضَاءِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإلى جَنَّاتِهِ، وَأَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا هُوَ الزُّهْدُ فِيهَا، وَالانْصِرَافُ عَنْهَا، وَعَدَمُ الرَّغْبَةِ فِيهَا، طَلَبَاً لِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا.
الدُّنْيَا في مِيزَانِ القُرْآنِ العَظِيمِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ المُسَافِرَ إلى رَبِّهِ جَلَّ جَلَالُهُ يَعْلَمُ بِأَنَّ اللهَ تعالى قَدْ ذَمَّ الدُّنْيَا وَالرَّغْبَةَ فِيهَا، وَمَدَحَ الزُّهْدَ فِيهَا وَالتَّقَلُّلَ مِنْهَا، فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾.
وَذَمَّ أَهْلَ الدُّنْيَا الذينَ تَشَبَّثُوا فِيهَا وَتَرَكُوا الآخِرَةَ، وَآثَرُوا مَا يَفْنَى على مَا يَبْقَى، قَالَ تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ النَّاظِرَ وَالمُتَفَحِّصَ لِأَحْوَالِ الأُمَّةِ اليَوْمَ يَجِدُ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ وَمَبْلَغَ عِلْمِهِ، يَعْدُو وَرَاءَهَا وَيَلْهَثُ في سَبِيلِ تَحْصِيلِهَا، كُلَّمَا نَالَ مِنْهَا شَيْئَاً ازْدَادَ طَلَبُهُ لَهَا وَجَرْيُهُ وَرَاءَهَا عَلَّهُ يَنَالُ مِنْهَا أَشْيَاءَ أُخْرَى.
فَالغَافِلُ عَنْ حَقِيقَةِ السَّفَرِ مِنَ الدُّنْيَا إلى اللهِ تعالى يَنْشَغِلُ بِالدُّنْيَا وَيُؤَجِّلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ إلى أَنْ يَفْرُغَ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَفْرُغَ، لِأَنَّ آمَالَ الدُّنْيَا لَا تَنْتَهِي، وَلَا يَقْضِي أَحَدٌ وَطْرَهُ مِنْهَا أَبَدَاً.
فَالعَاقِلُ هُوَ الذي يَجْعَلُ الهُمُومَ هَمَّاً وَاحِدَاً، وَهُوَ إِرْضَاءُ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى.
التَّجَارَةُ الرَّابِحَةُ وَالفَاسِدَةُ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَو تَفَقَّدْنَا أَحْوَالَ أَغلَبِ النَّاسِ اليَوْمَ فَإِنَّا نَجِدُ أَنَّ تِجَارَتَهم في الآخِرَةِ كَاسِدَةٌ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا إلا أَقَلُّ القَلِيلِ، مَعَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَثَّنَا على التِّجَارَةِ التي لَا تَبُورُ، قَالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ﴾. هَذَا تَنَافُسٌ أَمَرَنَا اللهُ تعالى بِهِ، وَحَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّنَافُسِ في هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَنَافَسُوا (يَعْنِي: في أَعْرَاضِ الدُّنْيَا) وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الحَقِيقَةُ البَاقِيَةُ وَالقَائِمَةُ هِيَ أَنَّ القَلْبَ لَا يَتَّسِعُ أَبَدَاً لِحُبِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَعَاً، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» رواه الحاكم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ ضُرَّتَانِ، إِذَا أَرْضَيْتَ إِحْدَاهُمَا أَسْخَطْتَ الأُخْرَى، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَيُرْضِي الاثْنَتَيْنِ فَقَدْ ظَنَّ أَمْرَاً لَا يَقَعُ أَبَدَاً، وَلَا يَكُونُ على الإِطْلَاقِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لِنَتَّقِ اللهَ تعالى، وَلْنُسَارِعْ إلى مَرْضَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ بِاغْتِنَامِ الحَيَاةِ قَبْلَ فَنَائِهَا، وَاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الأَعْمَالِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، وَاغْتِنَامِ النِّعَمِ قَبْلَ زَوَالِهَا، وَاغْتِنَامِ العَافِيَةِ قَبْلَ تَحَوُّلِهَا، وَاغْتِنَامِ يُـسْرِ الأُمُورِ قَبْلَ عُسْرِهَا، وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَّةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنَاً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْـمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنَاً وَيُمْسِي كَافِرَاً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنَاً وَيُصْبِحُ كَافِرَاً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعَاً، هَل تَنْتَظِرُونَ إلَّا فَقْرَاً مُنْسِيَاً، أَوْ غِنَىً مُطْغِيَاً، أَوْ مَرَضَاً مُفسِدَاً، أَوْ هَرَمَاً مُفَنِّداً، أَوْ مَوْتَاً مُجْهِزَاً، أَو الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وأَمَرُّ؟».
بَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَخَاصَّةً في أَيَّامِ الهَرْجِ، أَيَّامِ القَتْلِ، أَيَامِ الفَسَادِ، أَيَّامِ الفِتَنِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ» رواه الإمام مسلم عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
نَسْأَلُكَ يَا رَبَّنَا أَنْ تُخْرجَ مِنْ قُلُوبِنَا حُبَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ حُبَّهَا أَتْعَبَنَا، وَأَوْقَعَ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ في الكَبَائِرِ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِهَا، وَلَا أَدَلَّ على ذَلِكَ مِنْ وَاقِعِنَا المَرِيرِ الذي تَعِيشُهُ بِلَادُ الشَّامِ في هَذِهِ الآوِنَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا يُرْضِيكَ عَنَّا. آمين.
** ** **
تاريخ الكلمة:
الاثنين: 24/رمضان /1438هـ ، الموافق: 19/حزيران/ 2017م
اضافة تعليق |
ارسل إلى صديق |
يَا مَنْ أَقْعَدَكُمُ المَرَضُ عَنِ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَقُلُوبُكُمْ تَتَلَهَّفُ للصِّيَامِ وَالقِيَامِ، أَبْشِرُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فَأَنْتُمْ في نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، مَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ تَتَطَلَّعُ للصِّيَامِ ... المزيد
فِي خِتَامِ هَذَا الشَّهْرِ العَظِيمِ المُبَارَكِ، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى العَظِيمَةِ المُبَارَكَةِ، التي جَسَّدَتْ لَنَا بِوُضُوحٍ تَامٍّ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * ... المزيد
غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى فِيهَا دَرْسٌ عَمَلِيٌّ لِكُلِّ ظَالِمٍ، وَلِكُلِّ مَظْلُومٍ، وَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِ الغَزْوَةِ يَقُولُ لِكُلِّ مَظْلُومٍ: اصْبِرْ وَصَابِرْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحِيدَ عَنْ جَادَّةِ الصَّوَابِ، فَالعَاقِبَةُ لَكَ، ... المزيد
مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى نَتَعَلَّمُ خُلُقَ التَّوَاضُعِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَيْفَ كَانَ يَتَعَامَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. ... المزيد
يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. وَيَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... المزيد
الزَّمَنُ يَمضِي ولا يَعُودُ، ولَيسَ هُناكَ شَيءٌ أسرَعُ من الزَّمَنِ، فهوَ لا يَتَوَقَّفُ، تَمُرُّ اللَّيالِي والأيَّامُ والشُّهُورُ والسَّنَوَاتُ على الإنسَانِ ويَنتَهِي وُجُودُهُ فِيها كَأَنَّهُ لم يَلبَثْ فِيها إلا سَاعَةً من الزَّمَنِ. ... المزيد