49ـ كيفية البعث

49ـ كيفية البعث

49ـ كيفية البعث

مقدمة الكلمة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا):

كَيْفِيَّةُ البَعْثِ:

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾.

وَقَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.

وَالبَحْثُ في ذَلِكَ لَهُ عِدَّةُ أَطْرَافٍ:

أَوَّلًا: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في عَدَدِ النَّفَخَاتِ في الصُّورِ؟

فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ إلى أَنَّ النَّفَخَاتِ ثَلَاثَةٌ، نَفْخَةُ فَزَعٍ وَهِيَ السَّابِقَةُ عَلَى غَيْرِهَا، وَنَفْخَةُ صَعْقٍ أَيْ: إِمَاتَةٍ، وَنَفْخَةُ إِحْياءٍ.

فَعِنْدَ نَفْخَةِ الفَزَعِ يَفْزَعُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ ـ أَيْ: الإِمَاتَةِ ـ فَصَعِقَ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ يُنْفَخُ نَفْخَةُ الإِحْيَاءِ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ إلى رَبِّهِمْ يَنْظُرُونَ.

وَذَهَبَ قِسْمٌ مِنَ العُلَمَاءِ إلى أَنَّ هُنَاكَ نَفْخَتَيْنِ: نَفْخَةَ إِمَاتَةٍ وَنَفْخَةَ إِحْيَاءٍ.

ثَانِيًا: أَمَّا الذينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تعالى مِنَ الفَزَعِ وَالصَّعْقِ حِينَ يُنْفَخُ في الصُّورِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِمْ:

فَقِيلَ: هُمْ جِبْرِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَمَلَكُ المَوْتِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَقِيلَ: هُمُ الأَنْبِيَاءُ، وَإلى ذَلِكَ جَنَحَ البَيْهَقِيُّ كَمَا في الفَتْحِ.

وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ، أَيْ: وَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَجْدَرُ اسْتِثْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَقِيلَ: هُمُ الحُورُ العِينُ، وَخَزَنَةُ الجَنَّةِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ الأَقْوَالِ فَالوَاجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ هُنَاكَ مَنِ اسْتَثْنَاهُمُ اللهُ تعالى، وَإِنِّي لَا أَرِيدُ الآنَ أَنْ أُطِيلَ البَحْثَ في تَحْقِيقِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلى بَسْطٍ وَبَيَانٍ، فَرُبَّمَا نَأْتِي عَلَيْهِ في غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى.

ثَالِثًا: وَأَمَّا المُدَّةُ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، نَفْخَةِ الإِمَاتَةِ وَنَفْخَةِ الإِحْيَاءِ، وَكَيْفِيَّةُ إِحْيَاءِ المَوْتَى:

فَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ».

قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْمًا؟

قَالَ: أَبَيْتُ ـ أَيْ: لَا أَجْزِمُ بِذَلِكَ ـ.

قَالَ: أَرْبَعُونَ شَهْرًا؟

قَالَ: أَبَيْتُ ـ أَيْ: لَا أَجْزِمُ بِأَنَّهَا أَرْبَعُونَ شَهْرًا ـ.

قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟

قَالَ: أَبَيْتُ.

قَالَ: «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ».

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ».

فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَجْزِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِتَعْيِينِ الأَرْبَعِينَ مَا هِيَ؟ وَلَكِنْ جَاءَ في رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ أَنَّهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.

وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا، فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: «عَجْبُ الذَّنَبِ».

وَفي رِوَايَةِ مَالِكٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ، إِلاَّ عَجْبُ الذَّنَبِ، مِنْهُ خُلِقَ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ».

وَعَجَبُ الذَّنَبِ هُوَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: بِفَتْحِ العَيْنِ وَسُكُونِ الجِيمِ، العَظْمُ اللَّطِيفُ الذي هُوَ في أَسْفَلِ الصُّلْبِ، وَهُوَ رَأْسُ العُصْعُصِ، وَيُقَالُ لَهُ: عجَمُ بِالمِيمِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يُخْلَقُ مِنَ الأَرْضِ في ابْنِ آدَمَ، وَهُوَ الذي يَبْقَى مِنْهُ لِيُعَادَ تَرْكِيبُ الخَلْقِ عَلَيْهِ ـ كَمَا أَوْضَحَهُ النَّوَوِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَفي هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ إِعَادَةِ اللهِ تعالى الخَلَائِقَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَبَعْثِهَا مِنْ قُبُورِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تعالى يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً عَلَى ذَلِكَ الجُزْءِ البَاقِي مِنِ ابْنِ آدَمَ وَهُوَ عَجَبُ الذَّنَبِ، وَيَجْمَعُ اللهُ تعالى مَا تَفَرَّقَ مِنْ تُرَابِ ذَلِكَ الجِسْمِ، وَتَرْبُو أَجْسَامُهُمْ حَتَّى تَصِيرَ مُسْتَعِدَّةً لِتَلَبُّسِ الرُّوحِ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ اللهَ تعالى يَأْمُرُ المَلَكَ فَيَنْفُخُ في الصُّورِ نَفْخَةَ الإِحْيَاءِ، فَهُنَاكَ تَتَطَايَرُ كُلُّ رُوحٍ إلى جِسْمِهَا الذي كَانَتْ تَعْمُرُهُ ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾.

وَقَالَ اللهُ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾.

فَالبَعْثُ عِبَارَةٌ عَنْ إِخْرَاجِ ذَلِكَ الدَّفِينِ في خَبَايَا الأَرْضِ، وَبَثِّ الرُّوحِ فِيهِ، وَمِنْ هُنَا تَرَى أَنَّ اللهَ تعالى يُشَبِّهُ أَمْرَ البَعْثِ وَالإِعَادَةِ بِإِنْبَاتِهِ الزُّرُوعَ وَالأَشْجَارَ، وَإِحْيَائِهِ الأَرْضَ بِالمَطَرِ بَعْدَ مَوْتِهَا.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾.

فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا يُنْشِئُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ العَظِيمَةَ، وَالزُّرُوعَ الخَصِيبَةَ بِإِنْزَالِ المَطَرِ عَلَى تِلْكَ النَّوَاةِ وَالحَبَّةِ الدَّفِينَةِ في بَطْنِ الأَرْضِ، كَذَلِكَ يُخْرِجُ اللهُ تعالى هَذِهِ الأَجْسَامَ البَشَرِيَّةَ مِنْ تِلْكَ الذَّرَارِي وَالأَجْزَاءِ الدَّفِينَةِ في بَطْنِ الأَرْضِ، بِإِنْزَالِ مَاءٍ عَلَيْهَا، ثُمَّ بَثِّ الرُّوحِ فِيهَا، بِسَبَبِ نَفْخَةِ الصُّورِ.

وَهَذَا المَاءُ الذي يُحْيِي بِهِ اللهُ تعالى الأَجْسَامَ البَشَرِيَّةَ بَعْدَ مَوْتِهَا، هُوَ مَاءُ الحَيَاةِ المُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ العَنَاصِرِ الوُجُودِيَّةِ الأَرْبَعِ، وَهُوَ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾.

فَكَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا، أَيْ: جُمْلَةً مُجْمَلَةً في المَاءِ، فَفَتَقَهُمَا سُبْحَانَهُ، أَيْ: فَصَلَ وُجُودَهُمَا: أَوَّلًا: إلى مَرْحَلَةِ تَبْخِيرِ المَاءِ وَتَكْثِيفِهِ، فَمِنْ بُخَارِ المَاءِ اللَّطِيفِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ، وَمِنْ كَثِيفِ المَاءِ خَلَقَ الأَرْضَ وَالأَجْرَامِ، ثُمَّ فَصَّلَهُمَا إلى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَسَبْعِ أَرَضِينَ، ثُمَّ أَمْطَرَ السَّمَاءَ، وَأَنْبَتَ الأَرْضَ.

قَالَ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أَيْ: المَاءُ الذي كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ رَتْقًا فِيهِ، جَعَلْنَا مِنْ ذَلِكَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ المَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ الوَارِدِ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ، الحَدِيثُ الذي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ.

فَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ».

وَهَذَا الحَدِيثُ بَيَانٌ للآيَةِ الكَرِيمَةِ.

وَمِنْ ذَلِكَ المَاءِ أَيْضًا، مَا جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ـ أَنَّ العُصَاةَ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ جَهَنَّمَ، يُلْقَوْنَ في نَهْرِ الحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الحِبَّةِ في حَمِيلِ السَّيْلِ ـ الحَدِيثَ.

رَابِعًا: البَحْثُ في الصُّورِ وَالنَّافِخُ فِيهِ بِأَمْرِ اللهِ تعالى.

أَمَّا الصُّورُ فَهُوَ كَمَا قَالَ الجُمْهُورُ مِنَ العُلَمَاءِ العَارِفِينَ: عَالَمٌ عَظِيمٌ مِنْ عَوَالِمِ اللهِ تعالى، تَجْتَمِعُ فِيهِ الأَرْوَاحُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا للأَجْسَامِ، وَتَخْتَلِفُ في مَنَازِلِهَا عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَراتِبِهَا وَدَرَجَاتِهَا، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ شَكْلَ عَالَمِ الصُّورِ يُشْبِهُ القَرْنَ في ضِيقِ أَعْلَاهُ وَسَعَةِ أَسْفَلِهِ، فَهُوَ لَيْسَ كُرَوِيَّ الشَّكْلِ كَالأَرْضِ وَنَحْوِهَا، بَلْ قَرْنِيَّ الشَّكْلِ.

قَالَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ: بَابُ مَا جَاءَ فِي شَأْنِ الصُّورِ:

ثُمَّ أَسْنَدَ إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا الصُّورُ؟

قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ».

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَقَدِ التَقَمَ صَاحِبُ القَرْنِ القَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ وَأَصْغَى سَمْعَهُ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْمَرَ أَنْ يَنْفُخَ فَيَنْفُخَ».

فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ـ أَو كَيْفَ نَفْعَلُ؟ ـ

فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، تَوَكَّلْنَا عَلَى اللهِ رَبِّنَا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَأَمَّا صَاحِبُ القَرْنِ ـ أَيْ: الصُّورِ الذي يُنْفَخُ فِيهِ ـ فَهُوَ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ في جُمْلَةٍ مِنَ الأَحَادِيثِ.

قَالَ في الفَتْحِ: اشْتَهَرَ أَنَّ صَاحِبَ الصُّورِ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَقَلَ فِيهِ الحَلِيمِيُّ الإِجْمَاعَ، وَوَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ في حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عِنْدَ ابْنِ مَرْدَوِيه.

وَكَذَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ الطَّوِيلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالطَّبَرِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى فِي الْكَبِيرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي المُطَوَّلَاتِ، وَعَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فِي كِتَابِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. إلخ. اهـ.

فَبَعْدَمَا يُنْبِتُ اللهُ تعالى هَذِهِ الأَجْسَامَ، وَيَجْعَلُهَا قَابِلَةً للرُّوحِ، يَأْمُرُ المَلَكَ أَنْ يَنْفُخَ في الصُّورِ نَفْخَةَ الإِحْيَاءِ فَتَتَّصِلَ كُلُّ رُوحٍ بِجِسْمِهَا وَلَا تُخْطِئَهُ، فَمَا أَشْبَهَ الإِعَادَةَ بِالبَدَاءَةِ.

قَالَ اللهُ تعالى: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾.

وَقَالَ تعالى: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾.

**    **    **

تاريخ الكلمة:

الخميس: 9/ ذو القعدة /1443هـ، الموافق: 9/ حزيران / 2022م

الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  الإيمان بعوالم الآخرة ومواقفها

19-09-2024 50 مشاهدة
64ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2)

وَأَمَّا مَا وَرَدَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ مِنِ اعْتِذَارِ الخَلِيلِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَبَبِ الكَذَبَاتِ، فَإِنَّمَا هِيَ كَذَبَاتٌ صُورَةً لَا حَقِيقَةً، لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ المَعَارِيضِ، وَقَدْ جَاءَ ... المزيد

 19-09-2024
 
 50
10-09-2024 57 مشاهدة
63ـ عما ورد من نسبة الذنوب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام

يَقُولُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ سَيِّدِي الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ في كِتَابِهِ (الإِيمَانِ بِعَوَالِمِ الآخِرَةِ وَمَوَاقِفِهَا): الوَجْهُ الثَّانِي: في الجَوَابِ عَمَّا وَرَدَ مِنْ نِسْبَةِ الذُّنُوبِ للأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ ... المزيد

 10-09-2024
 
 57
15-08-2024 112 مشاهدة
62ـ حول أحاديث الشفاعة

أَوَّلًا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِيهِ إِعْلَانٌ بِمَقَامِ سِيَادَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَإِعْلَامٌ لِجَمِيعِ ... المزيد

 15-08-2024
 
 112
25-07-2024 165 مشاهدة
61ـ الشفاعة وأنواعها

الشَّفَاعَةُ كَمَا قَالَ الحَافِظُ الزَّرْقَانِيُّ: هِيَ انْضِمَامُ الأَدْنَى ـ أَيْ: لُجُوءُهُ وَقَصْدُهُ ـ إلى الأَعْلَى، لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا يَرُومُهُ، أَيْ: في جَلْبِ مَنْفَعَةٍ، أَو دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنِ المَشْفُوعِ بِهِ. وَالشَّفَاعَةُ ... المزيد

 25-07-2024
 
 165
11-01-2024 340 مشاهدة
60ـ يستقبل أمته على الحوض

سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقْبِلُ أُمَّتَهُ عَلَى الحَوْضِ وَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ: ... المزيد

 11-01-2024
 
 340
29-12-2023 384 مشاهدة
59ـ ينتظر الواردين من أمته

رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ، ... المزيد

 29-12-2023
 
 384

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5630
المقالات 3193
المكتبة الصوتية 4860
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 417747896
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :