520ـ خطبة الجمعة: مرارة الدنيا حلاوة في الآخرة

520ـ خطبة الجمعة: مرارة الدنيا حلاوة في الآخرة

 

520ـ خطبة الجمعة: مرارة الدنيا حلاوة في الآخرة

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يَا عِبَادَ اللهِ: مَنْ طَلَبَ السَّعَادَةَ الكَامِلَةَ وَأَرَادَهَا في الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقَدْ طَلَبَ المُسْتَحِيلَ، وَكَيْفَ يَبْحَثُ أَحَدُنَا عَنْهَا في دَارٍ جَعَلَهَا اللهُ تعالى سِجْنَاً للمُؤْمِنِينَ الأَتْقِيَاءِ الصَّالِحِينَ، وَجَنَّةً للكَافِرِينَ الفَاسِقِينَ المُجْرِمِينَ؟

روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ».

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا مِنْ بَلَاءٍ قَلَّ أَو كَثُرَ، صَغُرَ أَو كَبُرَ، إِلَّا وَهُوَ بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ، قَالَ تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾.

الكُلُّ في ابْتِلَاءٍ، هَذَا مُبْتَلَىً بِزَوْجَةٍ نَغَّصَتْ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِأَوْلَادٍ عَاقِّينَ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِأَقَارِبَ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيؤُونَ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِمَرَضٍ وَعِلَّةٍ في جَسَدِهِ، وَهَذَا أُصِيبَ بِقَذِيفَةٍ قَطَّعَتْ بَعْضَ أَوْصَالِهِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِفَقْدِ مَالِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِخَطْفِ حَبِيبٍ لَهُ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِقَتْلِ أَوْلَادِهِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلَادِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِالرُّعْبِ وَالذُّعْرِ، وَهَذَا مُبْتَلَىً بِظَالِمٍ، وَهَكَذَا ..... وَالكُلُّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾. وَللهِ الحَمْدُ لَمْ يَكُنِ الابْتِلَاءُ بِالخَوْفِ كُلِّهِ، أَو بِالجُوعِ كُلِّهِ، أَو بِذَهَابِ المَالِ كُلِّهِ، أَو بِذَهَابِ الأَنْفُسِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ العِبَادَ لَا يُطِيقُونَ البَلَاءَ كُلَّهُ.

مَرَارَةُ الدُّنْيَا حَلَاوَةٌ في الآخِرَةِ:

يَا صَاحِبَ الهَمِّ، يَا صَاحِبَ الكَرْبِ، يَا صَاحِبَ الابْتِلَاءِ، يَا صَاحِبَ القَلْبِ الكَئِيبِ، يَا صَاحِبَ الدَّمْعَةِ الحَارَّةِ، يَا أَيُّهَا المُحْتَارُ، يَا أَيُّهَا المَكْلُومُ، يَا أَيُّهَا المَجْرُوحُ، يَا أَيُّهَا المَظْلُومُ، يَا مَنْ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ حَسْرَةً وَأَسَىً، كُنْ على يَقِينٍ بِأَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا إِذَا صَبَرْتَ عَلَيْهَا، وَاحْتَسَبْتَ وَرَضِيتَ وَحَمَدْتَ اللهَ تعالى، َهِيَ وَاللهِ حَلَاوَةٌ في الآخِرَةِ.

أَبْشِرْ يَا عَبْدَ اللهِ، بِأَنَّكَ سَتَنْتَقِلُ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إلى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ، وَسَعَادَةٍ وَسُرُورٍ وَحُبُورٍ، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقَاً، وَذَاكَ خَيْرٌ لَكَ، وَلَا شَكَّ في ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسَاً فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسَاً قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: مَا تَنَالُونَ في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ مَرَارَةِ المَصَائِبِ، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ العَصِيبَةِ، هُوَ بِإِذْنِ اللهِ تعالى مُعَوَّضٌ في الآخِرَةِ بِخَيْرِ عِوَضٍ، مَا دُمْتُمْ صَابِرِينَ مُحْتَسِبِينَ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: القَلْبُ المُتَشَتِّتُ لَا يَجْمَعُهُ إِلَّا الإِقْبَالُ على اللهِ تعالى، وَالقَلْبُ المُسْتَوْحِشُ لَا أُنْسَ لَهُ إِلَّا بِاللهِ تعالى، القَلْبُ الحَزِينُ لَا يَسُرُّهُ إِلَّا مَعْرِفَةُ اللهِ تعالى وَصِدْقُ المُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَالقَلْبُ القَلِقُ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الفَرَارُ إلى اللهِ تعالى، وَالقَلْبُ الذي امْتَلَأَ بِنِيرَانِ الحَسَرَاتِ لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِقَضَاءِ اللهِ تعالى وَقَدَرِهِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِذَا أَرَدْنَا مُعَالَجَةَ قُلُوبِنَا المُتْعَبَةِ، وَأَنْ نُدْخِلَ عَلَيْهَا السُّرُورَ، وَأَنْ نُذْهِبَ الهَمَّ وَالحُزْنَ عَنْهَا، وَنُشِيعَ فِيهَا اللَّذَّةَ وَالحُبُورَ وَالسَّعَادَةَ وَالسُّرُورَ، فَلْنَسْمَعْ إلى النِّدَاءِ الرَّبَّانِيِّ العَجِيبِ الذي هُوَ شِفَاءٌ لِكُلِّ مُؤمِنٍ: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾. إِنَّهَا حَقِيقَةٌ رَبَّانِيَّةٌ.

يَا عِبَادَ اللهِ: كُلَّمَا أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا في وُجُوهِنَا عَلَيْنَا أَنْ نَفِرَّ إلى اللهِ تعالى، كُلَّمَا تَعَاظَمَتِ المُشْكِلَاتُ وَالصُعُوبَاتُ عَلَيْنَا أَنْ نَفِرَّ إلى اللهِ تعالى، كُلَّمَا ضَاقَتْ صُدُورُنَا وَقَسَتْ قُلُوبُنَا عَلَيْنَا أَنْ نَفِرَّ إلى اللهِ تعالى.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا تَحْزَنُوا حُزْنَاً يَزِيدُ عَنِ الحَدِّ لِنُزُولِ بَلَاءٍ، لِأَنَّ الدُّنْيَا هَذِهِ طَبِيعَتُهَا، الصَّحِيحُ فِيهَا يَنْتَظِرُ السَّقَمَ، وَالكَبِيرُ فِيهَا يَنْتَظِرُ الهَرَمَ، وَالمَوْجُودُ فِيهَا يَنْتَظِرُ المَوْتَ.

الدُّنْيَا اجْتِمَاعٌ وَفُرقَةٌ، مَوْلُودٌ وَمَيْتٌ، وَبِشْرٌ وَأَحْزَانٌ، وَالحَقِيقَةُ سَتَنْكَشِفُ يَوْمَ يَقِفُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ العَالَمِينَ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الترمذي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ». مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ تعالى لِأَهْلِ الابْتِلَاءِ، فَيَا أَيُّهَا المُبْتَلَى، أَنْتَ وَاللهِ في نِعْمَةٍ إِنْ صَبَرْتَ، فَاحْمَدِ اللهَ تعالى، وَرَدِّدْ قَائِلَاً: ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَمِنَ الصَّابِرِينَ عِنْدَ البَلَاءِ، وَمِنَ الرَّاضِينَ بِمُرِّ القَضَاءِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 25/ صفر الخير /1438هـ، الموافق: 25/تشرين الثاني / 2016م

 2016-11-25
 3375
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 616 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 616
23-05-2024 823 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 823
17-05-2024 1109 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1109
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415642426
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :