515ـ خطبة الجمعة: أعظم المصائب ضلال بعد هدى

515ـ خطبة الجمعة: أعظم المصائب ضلال بعد هدى

 

515ـ خطبة الجمعة: أعظم المصائب ضلال بعد هدى

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

يَا عِبَادَ اللهِ: حُبُّ الدُّنْيَا وَالرُّكُونُ إِلَيْهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَسَبَبُ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَمَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا رَكَلَهَا بِرِجْلِهِ، وَزَهِدَ فِيهَا كَمَا زَهِدَ فِيهَا الأَنْبِيَاءُ، وَالمُرْسَلُونَ، وَالصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ، وَسَلَفُ الأُمَّةِ الصَّالِحُونَ، لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

الدُّنْيَا دَارُ نَفَادٍ، لَا مَحَلُّ إِخْلَادٍ، وَهِيَ مَرْكَبُ عُبُورٍ لَا مَنْزِلُ حُبُورٍ، وَمَا مَثَلُهَا إلا كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلَاً أَوْ نَهَارَاً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدَاً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

أَعْظَمُ المَصَائِب ضَلَالٌ بَعْدَ هُدَىً:

يَا عِبَادَ اللهِ: الدُّنْيَا إِذَا سَكَنَتِ القَلْبَ أَفْسَدَتْهُ، وَجَعَلَتْ صَاحِبَهُ مُتَّبِعَاً للهَوَى، فَصَارَ حَاكِمَاً عَلَيْهِ، يُرِيهِ الحَقَّ بَاطِلَاً، وَالبَاطِلَ حَقَّاً، يُرِيهِ المَعْرُوفَ مُنْكَرَاً، وَالمُنْكَرَ مَعْرُوفَاً؛ وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الجَنَّةَ، قَالَ تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْـمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْـمَأْوَى﴾.

مَا أَخْطَرَ الهَوَى إِذَا سَيْطَرَ على طَلَبَةِ العِلْمِ وَالعُلَمَاءِ، وَسَيْطَرَ على أَفْرَادِ الأُمَّةِ؟ مَا أَخْطَرَ الهَوَى على دِينِ العَبْدِ إِذَا جَعَلَهُ يُسَارِعُ في الفِتْنَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنَبَاتِهِ الغَيْرَةَ على دِينِ اللهِ تَبَارَكَ وتعالى؟

أَصْحَابُ الهَوَى ضَلُّوا بَعْدَ الهُدَى، وَصَدَقَ فِيهِمْ قَوْلُ اللهِ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالَاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنَاً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوَاً﴾. أَصْحَابُ الهَوَى خَابَ سَعْيُهُم، وَضَلَّ سَعْيُهُمْ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً، وَأَنَّ عَمَلَهُمْ يُرْضِي رَبَّنَا عَزَّ وَجَلَّ.

يَا عِبَادَ اللهِ: أَيُّ بَوَارٍ، وَأَيُّ هَلَاكٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَشْعُرَ المَرْءُ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ تعالى بِعَمَلٍ هُوَ في الحَقِيقَةِ مِمَّا يَؤُزُّهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَزَّاً، وَيَدْفَعُهُ إِلَيْهِ دَفْعَاً؟

أَلَمْ يُخْبِرْنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ عن الشَّيْطَانِ قَائِلَاً: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾؟

التَّنَافُسُ على الدُّنْيَا أَهْلَكَنَا:

يَا عِبَادَ اللهِ: التَّنَافُسُ على الدُّنْيَا أَهْلَكَ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ، وَالأَسْوَأُ حَالَاً مَنْ نَافَسَ على الدُّنْيَا بِاسْمِ الإِسْلَامِ وَالدِّينِ، وَبِذَلِكَ هَدَمَ الدِّينَ وَالإسْلَامَ.

روى الشيخان عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: أَخْطَرُ شَيْءٍ على الإِنْسَانِ اتِّبَاعُهُ الهَوَى بِسَبَبِ حُبِّهِ للدُّنْيَا، فَمَنْ سَارَ على هَوَاهُ ضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ سَارَ على أَمْرِ اللهِ تعالى هُدِيَ وَهُدِيَ بِهِ.

مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ضَلَّ على عِلْمٍ، قَالَ تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾. وَمَنْ خُتِمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَبَصَرِهِ، كَيْفَ يَرَى، وَكَيْفَ يَسْمَعُ، وَكَيْفَ يَعْقِلُ؟

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَسْمَعْ جَمِيعَاً ولْنُسْمِعْ غَيْرَنَا قَوْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعَاً لِمَا جِئْتُ بِهِ» رواه ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

فَهَلْ سَفْكُ الدِّمَاءِ البَرِيئَةِ، وَتَهْدِيمُ البُيُوتِ، وَالجَرَائِمُ التي تَقَعُ، مِنَ اتِّبَاعِ الشَّرعِ الشَّرِيفِ أَمْ مِنَ اتِّبَاعِ الهَوَى؟ وَاللهِ الذي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ الحَقُّ أَوْضَحُ مِنْ نَارٍ على عَلَمٍ، وَلَكِنْ حُبُّ الدُّنْيَا وَاتِّبَاعُ الهَوَى؛ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ. فَهَلْ تَتُوبُ الأُمَّة إلى اللهِ تعالى قَبْلَ مَوْتِهَا؟ اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**        **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 20/ محرم /1438هـ، الموافق: 21/تشرين الأول / 2016م

 2016-10-20
 4232
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 616 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 616
23-05-2024 823 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 823
17-05-2024 1109 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1109
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415642591
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :