547ـ خطبة الجمعة: المقصد من الصيام

547ـ خطبة الجمعة: المقصد من الصيام

 

547ـ خطبة الجمعة: المقصد من الصيام

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: العِبَادَاتُ التي شَرَعَهَا اللهُ تعالى لِعِبَادِهِ لَهَا أَهْدَافٌ وَمَقَاصِدُ مُعَيَّنَةٌ، وَلَهَا آثَارُهَا عَلَى جَوَارِحِ العَبْدِ العَابِدِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ العَظِيمِ حَتَّى يَعْرِفَ العَبْدُ مُسْتَوَى العِبَادَةِ التي يَقُومُ بِهَا، فَمَثَلَاً، قَالَ تعالى في حَقِّ الصَّلَاةِ: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ﴾. وَقَالَ في حَقِّ تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَسَمَاعِهِ: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً﴾. وَقَالَ في حَقِّ ذِكْرِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. وَقَالَ في حَقِّ الاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرِيعَتِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾.

الهَدَفُ وَالمَقْصِدُ مِنَ الصِّيَامِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: وَلَو رَجَعْنَا إلى كِتَابِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ بَاحِثِينَ عَنْ أَهْدَافِ وَمَقَاصِدِ الصِّيَامِ الذي شَرَعَهُ لَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، لَوَجَدْنَا الهَدَفَ وَالمَقْصِدَ مِنَ الصِّيَامِ التَّحَقُّقَ بِالتَّقْوَى للهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنُحَقِّقِ الهَدَفَ وَالمَقْصِدَ مِنْ صِيَامِنَا، وَلْنُحَاوِلْ جَاهِدِينَ أَنْ نَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى التي أَرَادَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا، مِنْ خِلَالِ مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ؛ فَعَلَيْهِ بِتَجْدِيدُ التَّوْبَةِ للهِ تعالى.

يَا عِبَادَ اللهِ: حَاجَتُنَا للتَّوْبَةِ مُتَجَدِّدَةٌ، وَهِيَ ضَرُورِةٌ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، وَذَلِكَ لِحُكْمِ طَبِيعَتِهِ البَشَرِيَّةِ الخَطَّاءَةِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رواه الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «المُؤْمِنُ وَاهٍ رَاقِعٌ، فَسَعِيدٌ مَنْ هَلَكَ عَلَى رَقَعِهِ» رواه البيهقي عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَلَا بُدَّ مِنَ مُلَازَمَةِ التَّوْبَةِ صَبَاحَاً وَمَسَاءً، عِنْدَ كُلِّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنْ جَاءَتْ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ تَائِبٌ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ التَّوَّابَ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾.

أَعْلِنُوا التَّوبَةَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ مَعُونَةٍ مِنَ اللهِ تعالى للصَّائِمِينَ حَتَّى يَتُوبُوا، لِذَا مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ صَفَّدَ الشَّيَاطِينَ وَمَرَدَةَ الجِنِّ، فَهَلْ نُعْلِنُ تَوْبَتَنَا للهِ تعالى؟

هَلِ سَيَتُوبُ القَاتِلُ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ حَتَّى يَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى؟ هَلْ سَيَتُوبُ آكِلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ حَتَّى يَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى؟ هَلْ سَيَتُوبُ قَاطِعُ الرَّحِمِ وَعَاقُّ الوَالِدَيْنِ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ حَتَّى يَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى؟ هَلْ سَيَتُوبُ صَاحِبُ الخُلُقِ السَّيِّئِ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ حَتَّى يَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى؟ هَلِ سَيَتُوبُ الذي يُؤْذِي عِبَادَ اللهِ بِلسَانِهِ أَو بِيَدِهِ إلى اللهِ تعالى في هَذَا الشَّهْرِ حَتَّى يَصِلَ إلى دَرَجَةِ التَّقْوَى؟

يَا عِبَادَ اللهِ : إذا كانت الغَايَةُ مِنَ التَّوْبَةُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، كَمَا صَرَّحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحَاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ فَالصَّوْمُ يُحَقِقُ لَنَا هَذِهِ الغَايَةَ.

يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانَاً وَاحْتِسَابَاً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: وَاللهِ نَحْنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى مَغْفِرَةِ ذُنُوبِنَا مِنْ قِبَلِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، قَبْلَ نِهَايَةِ آجَالِنَا، لِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَجَلِّ وَأَعْظَمِ الحَسَنَاتِ، فَالسَّعِيدُ المُوَفَّقُ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِهَذِهِ الحَسَنَةِ، حَسَنَةِ التَّوْبَةِ للهِ مِنْ جَمِيع الذُّنُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، قَالَ تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذَا شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ شَهْرُ التَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ، لِنَقْطَعْ حِبَالَ التَّسْوِيفِ، وَلْنُقْبِلْ عَلَى رَبِّنَا الرَّحِيمِ اللَّطِيفِ القَائِلِ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءَاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورَاً رَحِيمَاً﴾. إِيَّايَ وَإِيَّاكُمْ وَطُولَ الأَمَلِ، وَالتَّوَانِي وَالكَسَلَ، المَوْتُ مُحِيطٌ بِنَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَبْرُنَا صُنْدُوقُ أَعْمَالِنَا، قَالَ تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَاً أَلِيمَاً﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ صِفَاتِ المُتَّقِينَ التَّوْبَةُ وَالإِنَابَةُ وَعَدَمُ الإِصْرَارِ عَلَى المَعْصِيَةِ، قَالَ تعالى في وَصْفِهِمْ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا تَوْبَةً صَادِقَةً نَصُوحَاً يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 7/ رمضان /1438هـ، الموافق: 2/ حزيران / 2017م

 

 2017-06-02
 5493
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 617 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 617
23-05-2024 824 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 824
17-05-2024 1112 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1112
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415645837
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :