534ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾

534ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾

 

534ـ خطبة الجمعة: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَاشِرَ عَشَرَةٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَنْ أَكْيَسُ النَّاسِ، وَأَحْزَمُ النَّاسِ؟

قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ ذِكْرَاً لِلْمَوْتِ، وَأَشَدُّهُمُ اسْتِعْدَادَاً لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَكْيَاسُ، ذَهَبُوا بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

العَبْدُ المُؤْمِنُ يَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اللِّقَاءِ مَعَ اللهِ تعالى رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلَاقِيهِ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: المَرْجِعُ وَالمَآلُ إلى اللهِ تعالى، وَالوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتْمٌ لَازِمٌ، وَسَوْفَ نُسْأَلُ عَمَّا قَدَّمْنَا وَعَمَّا أَخَّرْنَا، وَعَمَّا أَسْرَرْنَا وَعَمَّا أَعْلَنَّا.

﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾:

يَا عِبَادَ اللهِ: عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ عِنْدَ جَمِيعِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنَوَايَانَا قَوْلَهُ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. حَقيقَةٌ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِهَا، في كُلِّ يَوْمٍ نُوَدِّعُ مِنْ أُصُولِنَا وَفُرُوعِنَا وَأَحْبَابِنَا وَأَزْوَاجِنَا إلى دَارٍ لَا عَوْدَةَ مِنْهَا إلى هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَدَّعْنَا الكَثِيرَ إلى عَالَمِ البَرْزَخِ، وَسَوْفَ نُوَدَّعُ في لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ إلى ذَلِكَ العَالَمِ، مَهْمَا طَالَ العُمُرُ فَلَا بُدَّ مِنَ الرَّجْعَةِ إلى اللهِ تعالى.

وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا مَرْجِعَ وَلَا مَآلَ وَلَا آخِرَةَ فَهُوَ مَوْهُومٌ، وَرَحِمَ اللهُ تعالى القَائِلَ:

زَعَـمَ المُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِـلَاهُمَا   ***   لَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا

إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ   ***   أَوْ صَـحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا

يَا عِبَادَ اللهِ: قَضِيَّة: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. قَضِيَّةٌ حَتْمِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ نِقَاشَاً وَلَا أَخْذَاً وَلَا رَدَّاً، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.

سَلْ نَفْسَكَ يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُ:

يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُ وَالمُصَدِّقُ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. سَلْ نَفْسَكَ: مَنْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى؟  وَبِأَيِّ شَيْءٍ سَتَنْقَلِبُ إلى اللهِ تعالى؟ سَلْ نَفْسَكَ مَنْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى قَبْلَ أَنْ تُنَبَّأَ مَنْ أَنْتَ على رُؤُوسِ الأَشْهَادِ يَوْمَ الفَضِيحَةِ الكُبْرَى.

سَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ، هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى صَوَّامٌ، قَوَّامٌ، قَائِمٌ بِالقِسْطِ، حَلِيمٌ، جَوَادٌ كَرِيمٌ، عَفُوٌّ، شَهْمٌ، سَلِيمُ القَلْبِ، صَادِقٌ، نَاصِحٌ، أَمِينٌ، وَقَّافٌ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تعالى؛ أَمْ كَذَّابٌ، غَشَّاشٌ، مُرَاءٍ، مُنَافِقٌ، ظَالِمٌ، حَاقِدٌ، حَاسِدٌ، مُتَعَدٍّ على حُدُودِ اللهِ تعالى؟

سَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ، هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى سَارِقٌ أَمْ مَسْرُوقٌ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى ظَالِمٌ أَمْ مَظْلُومٌ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى آكِلٌ الحَلَالَ أَمِ الحَرَامَ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى بَارٌّ بِوَالِدَيْكَ أَمْ عَاقٌّ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى كَوَلَدِ سَيِّدِنَا نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمْ كَوَلَدِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى مُحِبٌّ الخَيْرَ للنَّاسِ كَمَا تُحِبُّهُ لِنَفْسِكَ، أَمْ مُحِبٌّ الشَّرَّ لَهُمْ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى تُرِيدُ الأَمْنَ وَالأَمَانَ للخَلْقِ، أَمِ الخَوْفَ وَالذُّعْرَ؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى تُرِيدُ جَمْعَ شَمْلِ الأُمَّةِ أَمْ تَمْزِيقَهَا؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى تُرِيدُ حَقْنَ الدِّمَاءِ أَمْ سَفْكَهَا؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى تُرِيدُ سَتْرَ الأَعْرَاضِ أَمْ هَتْكَهَا؟ هَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى تُرِيدُ الهِدَايَةَ أَمِ الغِوَايَةَ؟

سَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ: هَلْ أَنْتَ عَبْدٌ للهِ تعالى أَمْ لِنَفْسِكَ وَأَهْوَائِكَ؟

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: حَقِيقَةٌ لَازِمَةٌ ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾. الكُلُّ رَاجِعٌ إلى اللهِ تعالى، سَيُعْرَضُ على مَحْكَمَةٍ قَاضِيهَا هُوَ اللهُ تعالى، الكُلُّ سَيَقْرَأُ كِتَابَهُ الذي سُطِّرَ عَلَيْهِ ﴿في كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾.

فَالسَّعِيدُ مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ، وَاسْتَعَدَّ لَهُ، وَعَرَفَ نَفْسَهُ مَنْ هُوَ عِنْدَ اللهِ تعالى في حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، قَبْلَ أَنْ يَنْقَلِبَ إلى الآخِرَةِ فَيُنَبَّأَ مَنْ هُوَ على رُؤُوسِ الأَشْهَادِ؛ السَّعِيدُ مَنْ لَمْ يَخْدَعْ نَفْسَهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ.

فَسَلْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ: مَنْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ تعالى؟

اللَّهُمَّ لَا تُسَوِّدْ وُجُوهَنَا يَوْمَ العَرْضِ عَلَيْكَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 4/ جمادى الثانية /1438هـ، الموافق: 3/آذار / 2017م

 2017-03-03
 8627
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 616 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 616
23-05-2024 823 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 823
17-05-2024 1110 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1110
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415643473
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :