563ـ خطبة الجمعة: التقاء المظهر بالمخبر

563ـ خطبة الجمعة: التقاء المظهر بالمخبر

 

563ـ خطبة الجمعة: التقاء المظهر بالمخبر

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِدِينٍ قَالَ فِيهِ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾. مِنْ سِمَاتِ هَذَا الدِّينِ أَنَّهُ اعْتَنَى عِنَايَةً شَدِيدَةً بِتَرْبِيَةِ الإِنْسَانِ المُؤْمِنِ، اعْتَنَى بِهِ عِنَايَةً عَظِيمَةً لِيَكُونَ صَالِحَاً وَأَمِينَاً عَلَى تَطْبِيقِ شَرْعِ اللهِ تعالى، اعْتَنَى بِهِ عِنَايَةً فَائِقَةً لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى بِجِوَارِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ.

أَكْرَمَنَا اللهُ تعالى بِدِينٍ دَعَا أَتْبَاعَهُ لِالْتِقَاءِ المَظْهَرِ بِالمَخْبَرِ، لِالْتِقَاءِ الظَّاهِرِ بِالبَاطِنِ، وَالـسِّرِّ بِالعَلَانِيَةِ؛ وَحَذَّرَ أَتْبَاعَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الفِعْلِ للقَوْلِ، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ التي اتَّصَفَ بِهَا المُنَافِقُونَ الذينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ويُبْطِنُونَ مَا لَا يُظْهِرُونَ؛ حَذَّرَ أَتْبَاعَهُ مِنَ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانُوا مِنْ خَوَاصِّ النَّاسِ مِنْ عُلَمَاءَ وَقَادَةٍ، قَالَ تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. وَقَالَ عَنْ مُنَافِقِي هَذَهِ الأُمَّةِ: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.

«كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

أَتَوَجَّهُ إلى جَمِيعِ الرُّعَاةِ لِأَقُولَ لِـنَفْسِي وَلِكُلِّ وَاحِدٍ فِينَا وَفِيهِمْ مِمَّنْ لَهُمْ مَرْكَزُ الصَّدَارَةِ وَالتَّوْجِيهِ وَالنُّصْحِ وَالتَّرْبِيَةِ: إِذَا كَانَتْ مُخَالَفَةُ الفِعْلِ للقَوْلِ لَا تُقْبَلُ وَلَا تُسْتَسَاغُ مِنْ أَدْنَى النَّاسِ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَمَلَ مَشْعَلَ النُّورِ وَالهِدَايَةِ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَهُ اللهُ تعالى رَاعِيَاً وَمَسْؤُولَاً عَنْ رَعِيَّتِهِ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ قُدْوَةً للآخَرِينَ؟ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى.

تَذَكَّرُوا يَا عِبَادَ اللهِ، تَذَكَّرُوا يَا رُعَاةُ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ، تَذَكَّرُوا يَا مَنْ أَنْتُمْ قُدْوَةٌ للنَّاسِ، أَيُّهَا الأَبُ أَنْتَ قُدْوَةٌ لِوَلَدِكَ، أَيُّهَا الزَّوْجُ، أَنْتَ قُدْوَةٌ لِزَوْجَتِكَ، أَيُّهَا المُدِيرُ، أَنْتَ قُدْوَةٌ في إِدَارَتِكَ، أَيُّهَا الأَمِيرُ، أَنْتَ قُدْوَةٌ في إِمَارَتِكَ، أَيُّهَا المَسْؤُولُ، أَنْتَ قُدْوَةٌ في مَسؤولِيَّتِكَ، تَذَكَّرُوا جَمِيعَاً الحَدِيثَ الشَّرِيفَ الذي رواه الشيخان عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ».

تَذَكَّرُوا حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا قَالَ: «أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى رِجَالٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟» رواه أبو يعلى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

ورَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:

يَـا أَيُّـهَا الـرَّجُـلُ المُعَـلِّـمُ غَـيْرَهُ   ***   هَـلَّا لِـنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

وَنَرَاكَ تُـلْـقِـحُ بِـالرَّشَادِ عُقُولَنَا   ***   صِفَةً وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِــثْـلَـهُ   ***   عَارٌ عَلَـيْـكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَـانْـهَهَا عَنْ غَيِّهَا   ***   فَإِذَا انْتَهَتْ عَـنْـهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ تُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى   ***   بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَـعُ الـتَّعْـلِيمُ

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا أَيُّهَا الرُّعَاةُ، اتَّقُوا اللهَ وَخَافُوهُ في أَنْفُسِكُمْ، وَفي أَتْبَاعِكُمْ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ الخَطَأَ مِنْكُمْ لَيْسَ كَالخَطَأِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وَإِنَّ الهَفْوَةَ مِنْ أَمْثَالِكُمْ لَيْسَتْ كَالهَفْوَةِ مِنْ غَيْرِكُمْ، أَنْظَارُ التَّابِعِينَ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْكُمْ، فَلَا تَسْتَبْدِلُوا الذي هُوَ أَدْنَى بِالذي هُوَ خَيْرٌ، فَتَضِلُّوا وَتُضِلُّوا، لَا تَشْتَرُوا العَاجِلَ بِالآجلِ، وَلَا الفَانِيَ بِالبَاقِي.

وَيَا أَيُّهَا الدُّعَاةُ إلى اللهِ تعالى، اتَّقُوا اللهَ تعالى في الأُمَّةِ، وَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ الإِسْلَامِ، فَاللهَ اللهَ أَنْ يُؤْتَى الإِسْلَامُ مِنْ قِبَلِكُمْ، فَتَأْثَمُونَ وَتَأْخُذُونَ إِثْمَ مَنْ تَبِعَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالَاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾. وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾.

نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنَ الفِتَنِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ، سِلْمَاً لِأَوْلِيَائِهِ، حَرْبَاً عَلَى أَعْدَائِهِ، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**     **     **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 17/ ذو الحجة/1438هـ، الموافق: 8/ أيلول / 2017م

 2017-09-08
 2418
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 615 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 615
23-05-2024 822 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 822
17-05-2024 1108 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1108
10-05-2024 858 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 858
02-05-2024 987 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 987
26-04-2024 966 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 966

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415641439
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :