596ـ خطبة الجمعة: الاستعداد لليلة النصف

596ـ خطبة الجمعة: الاستعداد لليلة النصف

 

596ـ خطبة الجمعة: الاستعداد لليلة النصف

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يَشْفِيَهُ مِنْ دَاءِ الحِقْدِ، وَلَيْسَ أَهْنَأَ للمَرْءِ في الحَقِيقَةِ، وَلَا أَطْرَدَ لِهُمُومِهِ، وَلَا أَقَرَّ لِعَيْنِهِ، مِنْ أَنْ يَعِيشَ سَلِيمَ القَلْبِ، بَرِيئَاً مِنَ وَسَاوِسِ الضَّغِينَةِ، وَثَوَرَانِ الأَحْقَادِ، وَمُسْتَرِيحَاً مِنَ الحِقْدِ الأَعْمَى، فَإِنَّ فَسَادَ القَلْبِ بِالضَّغَائِنِ دَاءٌ عَيَاءٌ، وَمَا أَسْرَعَ أَنْ يَـتَسَرَّبَ الإِيمَانُ مِنَ القَلْبِ المَغْشُوشِ كَمَا يَتَسَرَّبُ المَاءُ مِنَ الإِنَاءِ المَثْلُومِ.

الاسْتِعْدَادُ لِلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ:

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَطَلَّتْ عَلَى الأُمَّةِ، وَالأُمَّةُ تَسْتَعِدُّ للتَّعَرُّضِ إلى رَحْمَةِ اللهِ تعالى في هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَكِنْ أَقُولُ: يَا مَنْ يَسْتَعِدُّ لِلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، اسْمَعْ إلى مَا قَالَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِ، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ» رواه البيهقي عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وروى ابن ماجه عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

حَاجَتُنَا إلى عُلُوِّ الأَخْلَاقِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: نَحْنُ اليَوْمَ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى عُلُوِّ الأَخْلَاقِ، بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى التَّمَاسُكِ، بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى رَفْضِ الحِقْدِ مِنْ نُفُوسِنَا، هَذِهِ الأَزْمَةُ جَعَلَتِ الأَحْقَادَ في قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى أَوْقَعَتْهُمْ في العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ التي أَدَّتْ إلى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: لِنَتَعَلَّمْ دَرْسَاً عَمَلِيَّاً مِنْ حَيَاةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، الذي ضَرَبَ للـبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ مَثَلَاً عَالِيَاً جِدَّاً في رَفْضِ الحِقْدِ عَنْ نَفْسِهِ تُجَاهَ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ.

تَأَمَّلُوا عِظَمَ أَخْلَاقِهِ وَمَنْزِلَتِهِ، وَاجْعَلُوهُ أُسْوَةً لَكُمْ؛ لَقَدْ ظَلَمَهُ إِخْوَتُهُ ظُلْمَاً شَدِيدَاً بَيِّنَاً عَظِيمَاً، حَقَدُوا عَلَيْهِ حِقْدَاً لَا مَثِيلَ لَهُ، حَسَدُوهُ عَلَى عِظَمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ أَبِيهِ، أَخَذُوهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ القَوْلَ، وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ في الفَلَاةِ، لَمْ يَرْدَعْهُمْ صِغَرُ سِنِّهِ، وَلَا الغُرْبَةُ وَالوَحْشَةُ التي سَيَكُونُ فِيهَا، وَلَمْ تَرْدَعْهُمْ وَصِيَّةُ أَبِيهِمْ لَهُمْ، وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَةِ الجُبِّ، وَأَنْ يَحْرِمُوهُ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ وَأَخِيهِ الأَصْغَرِ.

قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ، قُلُوبٌ حَاقِدَةٌ، قُلُوبٌ نُزِعَتْ مِنْهَا الرَّحْمَةُ في تِلْكَ السَّاعَةِ، وَكَانُوا سَبَبَاً في بَيْعِهِ وَجَعْلِهِ عَبْدَاً بَعْدَ أَنْ كَانَ حُرَّاً.

وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً   ***   عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

لَقَدْ كَانُوا سَبَبَاً في ابْتِلَائِهِ وَوُقُوعِهِ في السِّجْنِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الأَفْعَالُ مَاذَا سَتُوَرِّثُ في نَفْسِ الإِنْسَانِ إِذَا حَصَلَ مَعَهُ مِثْلُ هَذَا؟ أَقُولُ وَبِكُلِّ صَرَاحَةٍ: هَذِهِ الأَفْعَالُ تُوَرِّثُ الحِقْدَ الأَسْوَدَ الدَّفِينَ عَلَى الذينَ فَعَلُوا هَذَا الفِعْلَ، إِذَا كَانَ القَلْبُ خَاوِيَاً مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ.

أَمَّا صَاحِبُ الإِيمَانِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَاللهِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ في قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، لِأَنَّ إِيمَانَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِذَلِكَ عِنْدَمَا الْتَقَى مَعَ إِخْوَتِهِ قَالَ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وَقَالَ لِأَبِيهِ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾. أَيُّ عَظَمَةٍ هَذِهِ؟

إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَزِيزَاً مُحْسِنَاً، كُنْ صَاحِبَ صَدْرٍ سَلِيمٍ، وَتَصَوَّرْ هَذَا المَوْقِفَ ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: يَا مَنْ يُرِيدُ العِزَّةَ وَالكَرَامَةَ وَالسُّؤْدُدَ، كُنْ سَلِيمَ القَلْبِ مِنَ الأَحْقَادِ، يَا مَنْ يُرِيدُ نَفْحَةً مِنْ نَفَحَاتِ اللهِ تعالى، كُنْ سَلِيمَ القَلْبِ مِنَ الأَحْقَادِ، يَا مَن يُرِيدُ أَن يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، كُنْ سَلِيمَ القَلْبِ مِنَ الأَحْقَادِ، يَا مَنْ يُرِيدُ مَعِيَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كُنْ سَلِيمَ القَلْبِ مِنَ الأَحْقَادِ، يَا مَنْ صَدَّقَ اللهَ تعالى في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ كُنْ سَلِيمَ القَلْبِ مِنَ الأَحْقَادِ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا سَلَامَةَ القُلُوبِ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**      **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 11/ شعبان /1439هـ، الموافق: 27/ نيسان / 2018م

 2018-04-27
 1283
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 616 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 616
23-05-2024 823 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 823
17-05-2024 1110 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1110
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415643073
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :