668ـ خطبة الجمعة: أصلحوا ذات البين

668ـ خطبة الجمعة: أصلحوا ذات البين

668ـ خطبة الجمعة: أصلحوا ذات البين

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فَيَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ خِلَالِ أَيَّامِ العِيدِ المُنْصَرِمَةِ وَجَدْتُ بِأَنَّ الأُمَّةَ وَالأُسَرَ بِشَكْلٍ عَامٍّ بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ الذي هُوَ عُنْوَانُ الإِيمَانِ بَيْنَ الإِخْوَةِ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ مَصْدَرُ الطُّمَأْنِينَةِ وَالهُدُوءِ وَمَبْعَثُ الاسْتِقْرَارِ وَالأَمْنِ، وَيَنْبُوعُ الأُلْفَةِ وَالمَوَدَّةِ وَالمَحَبَّةِ.

يَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ التَّنَازُعَ بَيْنَ الأَفْرَادِ مُفْسِدٌ للبُيُوتِ وَالأُسَرِ، وَمُهْلِكٌ للشُّعُوبِ وَالأُمَمِ، وَسَبَبٌ عَظِيمٌ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَتَبْدِيدِ الثَّرَوَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

بِالخُصُومَاتِ وَالمُشَاحَنَاتِ تُنْتَهَكُ حُرُمَاتُ الدِّينِ، وَيَعُمُّ الشَّرُّ القَرِيبَ وَالبَعِيدَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ سَمَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ بِالحَالِقَةِ، فَهِيَ لَا تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، روى الترمذي عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ».

التَّحْذِيرُ مِنْ فَسَادِ ذَاتِ البَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَسَادِ ذَاتِ البَيْنِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّهَا الحَالِقَةُ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

فَكَمْ يَسْعَى الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ اليَوْمَ لِيُفْسِدُوا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، وَأَنْ يَنْقُلُوا الكَلَامَ عَلَى سَبِيلِ النَّمِيمَةِ، وَإِذْكَاءِ نَارِ العَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ وَالشَّحْنَاءِ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.

يَا عِبَادَ اللهِ: لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ في أَنَّ الشِّقَاقَ وَالخِلَافَ مِنْ أَخْطَرِ أَسْلِحَةِ الشَّيْطَانِ الفَتَّاكَةِ التي يُوغَرُ بِهَا صُدُورُ الخَلْقِ، لِيَنْفَصِلُوا بَعْدَ اتِّحَادٍ، وَيَتَنَافَرُوا بَعْدَ اتِّفَاقٍ، وَيَتَعَادُوا بَعْدَ أُخُوَّةٍ وَصَدَاقَةٍ.

أَهَمِّيَّةُ إِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ:

يَا عِبَادَ اللهِ: إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، وَخُلُقٌ جَمِيلٌ يُحِبُّهُ اللهُ تعالى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.

بِإِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ تَكُونُ الأُسْرَةُ ثُمَّ الأُمَّةُ مُتَمَاسِكَةً، يَعَزُّ فِيهَا الضَّعْفُ، وَيَنْدُرُ فِيهَا الخَلَلُ، وَتَقْوَى رَوَابِطُ الأُسْرَةِ وَالأُمَّةِ.

بِإِصْلَاحِ ذَاتِ البَيْنِ يَصْلُحُ المُجْتَمَعُ، وَتَأْتَلِفُ القُلُوبُ، وَتَجْتَمِعُ الكَلِمَةُ، وَيُنْبَذُ الخِلَافُ، وَتُزْرَعُ المَوَدَّةُ وَالأُلْفَةُ وَالمَحَبَّةُ.

يَا عِبَادَ اللهِ: العَبْدُ الذي لَا يَقْبَلُ الصُّلْحَ وَلَا يَسْعَى إِلَيْهِ عَبْدٌ قَاسِي القَلْبِ، فَاسِدُ السَّرِيرَةِ، خَبِيثُ النِّيَّةِ، سَيِّئُ الأَخْلَاقِ، غَلِيظُ الكَبِدَ، إلى الشَّرِّ أَقْرَبُ، وَعَنِ الخَيْرِ أَبْعَدُ.

أَمَّا العَبْدُ المُصْلِحُ فَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قَلْبَاً، وَقَلْبُهُ مِنْ أَطْهَرِ القُلُوبِ، هَذَا العَبْدُ نَفْسُهُ تَوَّاقَةٌ للخَيْرِ مُشْتَاقَةٌ إِلَيْهِ، يَبْذُلُ كُلَّ جُهْدِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَجْلِ الإِصْلَاحِ.

خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:

يَا عِبَادَ اللهِ: مِنْ عَظِيمِ رَحْمَةِ اللهِ تعالى، وَمِنْ عَظِيمِ عَفْوِهِ وَبَرَكَتِهِ أَنَّهُ يُصْلِحُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ.

روى الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟

قَالَ: «رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي، فَقَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي».

قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنَّانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورَاً مِنْ ذَهَبً مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ، لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا، أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا، أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ، قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ».

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «اتَّقُوا اللهَ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ».

يَا عِبَادَ اللهِ: أَصْلِحُوا بَيْنَ الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ الأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ المُتَدَايِنِينَ، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ الأَقَارِبِ وَالأَرْحَامِ، وَأَصْلِحُوا في الأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَأَصْلِحُوا في النِّزَاعِ وَالخُصُومَاتِ، لِنُصْلِحْ وَلَا نُفْسِدْ، فَإِنَّ الفَسَادَ دَمَّرَ العِبَادَ وَالبِلَادَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العظِيمِ.

اللَّهُمَّ اجْمَعْ شَمْلَنَا، وَلَا تُفَرِّقْ جَمْعَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

**    **    **

تاريخ الخطبة:

الجمعة: 15/ ذو الحجة /1440هـ، الموافق: 6/ آب / 2019م

 2019-08-16
 3248
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 616 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 616
23-05-2024 823 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 823
17-05-2024 1110 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1110
10-05-2024 859 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 859
02-05-2024 988 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 988
26-04-2024 967 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 967

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415643100
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :