687ـ خطبة الجمعة: واقعنا المرير
مقدمة الخطبة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا عِبَادَ اللهِ: دِينُنَا الذي أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ دِينُ كَمَالٍ وَتَمَامٍ، رَضِيَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَنَا شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً وَسُلُوكَاً، قَالَ تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾.
هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ العَظِيمُ هُوَ الذي أَعَزَّنَا، وَهُوَ الذي رَفَعَنَا، وَهُوَ الذي جَعَلَنَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ عِنْدَمَا الْتَزَمْنَاهُ؛ هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ أَعَزَّهُ اللهُ تعالى، وَمَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ تعالى، وَمَنْ تَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ قَصَمَهُ اللهُ تعالى.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَتَبَ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَسْتَبْدِلُ الضَّلَالَ بِالهُدَى، وَتَتَخَلَّى عَنْ خَصَائِصِهَا، وَتَخْجَلُ مِنْ مَبَادِئِهَا أَنَّهَا أُمَّةٌ لَا تَزَالُ في تَقَهْقُرٍ وَانْحِطَاطٍ وَتَلَاشٍ وَاضْمِحْلَالٍ في فِكْرِهَا وَقُوَّتِهَا وَسُلُوكِهَا.
«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ»:
يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ السَّوَادُ الأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ في هَذِهِ الآوِنَةِ ـ إِضَافَةً إلى مَا فِيهَا مِنَ بَلَاءِ الحَرْبِ، وَالغَلَاءِ، وَتَسَلُّطِ الأَعْدَاءِ ـ أَنَّهَا أَصْبَحَتْ تَأْخُذُ كُلَّ مَا يُسَاقُ إِلَيْهَا، وَتَعُبُّ مِنْ كُلِّ وَارِدٍ يَأْتِيهَا، نَاسِيَةً أَو مُتَنَاسِيَةً أَنَّ لَدَيْهَا ثَوَابِتَ عَقَدِيَّةً، وَقَوَاعِدَ شَرْعِيَّةً، وَضَوَابِطَ رَبَّانِيَّةً، تَضْبِطُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الأُمَمِ الأُخْرَى وَيُقْبَلُ، وَمَا يُحْذَّرُ مِنْهُ وَيُعْرَضُ عَنْهُ وَيُهْمَلُ.
يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا يَزِيدُ الظَّلَامَ ظُلْمَةً، وَالعُقْدَةَ عُقَدَاً، وَالهَمَّ هَمَّاً، وَالغَمَّ غَمَّاً، وَالكَرْبَ كَرْبَاً، أَنْ يَكُونَ مَيْلُ الآخِذِينَ مِنَ غَيْرِهِم إلى التَّافِهِ الحَقِيرِ مِنْ فُنُونِ مَا يَسْلِبُ الأَخْلَاقَ، وَيُدَمِّرُ القِيَمَ، وَيُذِلُّ الأُمَّةَ، وَيُكَرِّسُ العُبُودِيَّة، أَمَّا أَنْ نَأْخُذَ مِنْ غَيْرِنَا سِرَّ التَّفَوُّقِ، وَإِكْسِيرَ القُوَّةِ، وَالنَّافِعَ المُفِيدَ، فَنَحْنُ عَنْهُ غَافِلُونَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يُنَادِينَا مِنْ قُدْسِهِ الأَعْلَى، رَحْمَةً بِنَا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. وَلَكِنْ أَبَى الكَثِيرُ الاسْتِجَابَةَ لِنِدَاءِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَصَدَقَ فِيهِ قَوْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرَاً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟
قَالَ: «فَمَنْ؟» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَعْظَمَكَ، لَقَدْ قُلْتَ حَقَّاً، وَتَلَفَّظْتَ صِدْقَاً؛ لَقَدْ أَصْبَحَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ لَا يُفَكِّرُونَ إِلَّا بِعُقُولِ الأَعْدَاءِ، وَلَا يُبْصِرُونَ إِلَّا بِأَعْيُنِهِمْ، رَسَخَ في نُفُوسِهِمْ أَنَّ الحَقَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ عَدُوِّهِم، وَأَنَّ البَاطِلَ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ.
وَاقِعُنَا المَرِيرُ:
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلُمُّوا إلى وَاقِعِنَا المَرِيرِ لِنُلْقِيَ عَلَيْهِ الضَّوْءَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرَاً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».
أَخْطَرُ شَيْءٍ يُدَمِّرُ الأُمَّةَ هُوَ سُفُورُ النِّسَاءِ وَتَبَرُّجُهُنَّ، وَهَذَا مِنْ أَفْتَكِ الأَمْرَاضِ الخُلُقِيَّةِ التي تُبْتَلَى بِهَا الأُمَمُ وَتَنْهَارُ بِسَبَبِهَا القِيَمُ وَالأَخْلَاقُ، رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يُخَاطِبُ نِسَاءَنَا وَبَنَاتِنَا بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾.
وَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَنَا: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَـضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٍ السِّبَاقُ المُحْمُومُ الذي تَتَسَابَقُهُ كَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ لَهْثَاً وَرَاءِ تَقْلِيدِ الغَرْبِ، وَرَكْضَاً في كَشْفِ مَا أُمِرَتْ بِسَتْرِهِ، رُوَيْدَاً رُوَيْدَاً شِبْراً بِشِبْر وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ.
يَا عِبَادَ اللهِ: هَلُمَّوا إلى وَاقِعِنَا المَرِيرِ لِنُلْقِيَ عَلَيْهِ الضَّوْءَ مِنْ خِلَالِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرَاً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعَاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».
نَحْنُ نَعِيشُ في أَزْمَةِ الحَرْبِ، نَعِيشُ في أَزْمَةِ الغَلَاءِ، نَعِيشُ في أَزْمَةِ الحِصَارِ عَلَى بِلَادِنَا مِنْ قِبَلِ الغَرْبِ، وَنَحْنُ تَرَانَا مُسْرِعِينَ إلى الاحْتِفَالِ بِعِيدِ رَأْسِ السَّنَةِ المِيلَادِيَّةِ، مُقَلِّدِينَ شَرْقَاً وَغَرْبَاً في حَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، حَتَّى في خُمُورِهِمْ وَاخْتِلَاطِهِمْ وفي الفَوَاحِشِ التي يَرْتَكِبُونَهَا.
يَا عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ خَاطَبَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا» رواه الترمذي عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةَ ـ:
يَا عِبَادَ اللهِ: أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِقَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
يَا رَبِّ، رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدَّاً جَمِيلَاً. آمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
** ** **
تاريخ الخطبة:
الجمعة: 30/ ربيع الثاني /1441هـ، الموافق: 27/ كانون الأول / 2019م
ارسل إلى صديق |
مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد
المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد
إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد
فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد
الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد
لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد