214ـ خطبة الجمعة: كيفية معالجة نشوز المرأة(2)

214ـ خطبة الجمعة: كيفية معالجة نشوز المرأة(2)

 

مقدمة الخطبة:

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا عباد الله:

من خلال قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} نعلم بأن الله تبارك وتعالى خلق الزوجين الذكر والأنثى، وربط بينهما برباط شرعي ألا وهو الزواج الذي سنه لنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كما سنَّه الأنبياء والمرسلون من قبل.

شرع ربنا عز وجل الزواج، وأراد بذلك تحقيق السكن للزوجين، وهدوء الأعصاب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد، ثم جعله ستراً وإحصاناً وصيانة، ثم مزرعة للنسل، وامتداداً لحياة الزوجين، فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}. وقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.

القوامة للرجل بأمر الله تعالى:

أيها الإخوة الكرام: ربنا عزو جل الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، ويعلم ظاهره وباطنه لم يجعله معصوماً، بل جعل العصمة للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام فقط، وما عداهم خطاء، كما جاء في الحديث الشريف: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ) رواه الإمام أحمد والترمذي.

وصيانة للأسرة من التفكك والضياع جعل القوامة بيد الرجل قوامة تكليف لا تشريف، فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}، وجعل حقَّ تأديب الزوجة الناشز لزوجها، فقال تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}، وهذا من أجل سلامة الأسرة التي هي نواة المجتمع، ومن أجل سلامة دين المرأة ودنياها وآخرتها.

ربنا عز وجل شرع حقَّ التأديب كإجراء وقائي عند خوف نشوز المرأة للمبادرة بالإصلاح، لا لزيادة إفساد القلوب، وملئها بالبغض والحقد والحنق.

حق التأديب ليس معركة بين طرفين:

أيها الإخوة الكرام: إنَّ حقَّ التأديب الذي أعطاه ربنا عز وجل للرجل ليس من أجل إنشاء معركةٍ بين الرجل والمرأة، يُراد من خلال هذا الحق تحطيم رأس المرأة حين تهمُّ بالنشوز، لا أبداً، لأنَّ المرأة مكرَّمة في دين الله عز وجل، وما بين الرجل والمرأة هو تكامل لا تنافر وتباين، الرجل يكمِّل المرأة، والمرأة تكمِّل الرجل.

المراد من هذا التأديب بشروطه أن ترجع المرأة إلى جادَّة الصواب، من أجل سلامة دينها ودنياها وآخرتها، وطبعاً هذا لا يفقهه من الرجال إلا من فهم دين الله عز وجل، أما الذي لا يفقه دين الله تعالى، فقد يظنُّ أنَّ الله تعالى أعطاه حق التأديب، من أجل أن يحطِّم رأس المرأة وأن يذلَّها، والعياذ بالله تعالى.

كيف يعالج نشوز المرأة:

أيها الإخوة المؤمنون: ذكرنا في الخطبة الماضية بأنَّ أول طريق لمعالجة نشوز المرأة هو الموعظة، وأن تكون هذه الموعظة من خلال قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. وتأديب المرأة الناشز هو نوع من أنواع الدعوة إلى الله تعالى من أجل سلامة دين المرأة، ومن أجل سلامة دنياها وآخرتها.

والموعظة يجب أن تتحقق فيها شروط النصيحة، وهي:

أولاً: أن تكون النصيحة والموعظة سراً.

ثانياً: أن تكون بلطف من الناصح والواعظ للمنصوح.

ثالثاً: أن تكون بدون استعلاء من الواعظ الناصح على المنصوح.

ولكن قد لا تنفع الموعظة لأن هناك هوىً غالباً، أو انفعالاً جامحاً، أو استعلاءً بجمال، أو بمال، أو بمركز عائلي، أو بقيمة من القيم، تنسي الزوجة أنها شريكة لزوجها في هذه الأسرة، وليست ندَّاً له في صراع ومقاومة، وإثبات وجود، عند ذلك ينتقل الزوج إلى الطريق الثاني من طرق التأديب.

الهجر في المضجع وشروطه:

أيها الإخوة الكرام: يقول تبارك وتعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}. والمضجع: هو موضع الإغراء والجاذبية الذي تبلغ المرأة فيه قمة سلطانها، ومن خلاله تتحكَّم بزوجها.

وإذا لم تتعظ بالموعظة ولم تنفعها ينتقل الزوج إلى الهجر في المضجع.

وهذا يعني أنَّ الزوج يهجر زوجته في الفراش فقط لا في البيت، ولا في الحجرة الخاصَّة به وبزوجته، ينام بجانبها ويوليها ظهره.

لماذا الهجر في المضجع فقط:

أولاً: حتى لا تفضح ما بينك وبين زوجتك للآخرين، ولو كانوا من أقرب الناس إليك.

ثانياً: حتى لا تزيد في عنادها، لأنَّك إن هجرت في البيت فضحتها، وإذا علم من حولك أنَّك تنام لوحدك، فقد ينظر إليها نظرة احتقار، وهذا يدفعها لمزيد من العناد والموقف الصلب ظنَّاً منها أنها تدافع عن كرامتها.

ولن ينفعها الهجر هذا بعد فضيحتها، وكيف ينفعها الهجر مع فضيحتها أمام أهلك أو أهلها وأقاربكما، وهي لم تتعظ بالموعظة الحسنة التي ذكرناها بشروطها؟

ثالثاً: حتى لا تخرج الخلافات خارج البيت، لأنَّ الخلافات إذا وصلت لأهل الزوج، أو أهل الزوجة، أو الأقارب والأصدقاء، تعسَّر حلُّ هذه الخلافات، لأنه تتدخَّل الأهواء والآراء والمختلفة، ويكون الزوجان هما الضحيَّة.

رابعاً: الزوجة عندما ترى زوجها ضيَّقَ الخلاف بينها وبينه حتى جعلها في المضجع فقط دون أن يعلم أحد ولو من أقرب المقربين إليها، فإنَّ العاطفة تتحرَّك نحو زوجها، وبذلك تنتهي الخلافات بينهما.

اعلم هذه الأحكام أيُّها الزوج المُؤَدِّبْ:

أيها الإخوة الكرام: يجب على كلِّ زوج يريد أن يُؤدِّب زوجته الناشز، أن يتعلَّم طرق التأديب، وآداب تلك الطرق، حتى لا يقع في المخالفات الشرعية، وهو يمارس حقه الذي منحه الله تعالى إياه، فمن آداب هجر الزوجة:

أولاً: أن لا يهجر الزوج زوجته أكثر من ثلاثة أيام، وذلك لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثِ لَيَالٍ) رواه البخاري عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

ثانياً: أن يكون هجره في الظاهر فقط، وأن يكون قلبه منكسراً على زوجته الناشز، وهذا من كمال الشفقة والرحمة، يهجرها ظاهراً ويَدْعُو الله عزَّ وجل سرّاً؛ لأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، كما جاء في الحديث الشريف: (إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) رواه الترمذي، فقلبك وقلبها بيد الله تعالى، فليكن هجرك في الظاهر، والقلب منكسر لله تعالى من أجل إصلاح ما فسد.

أما إذا امتلأ القلب غيظاً وحقداً وبغضاً فإن هذا يؤجج النار، نار الخلافات ولا يطفئها.

أيها الإخوة الكرام: عندما هجر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم نساءه شهراً كاملاً، كان هجره في الظاهر فقط، والقلب الشريف هو القلب الشفوق الرحيم، حتى رأينا عندما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}، ماذا قال للسيدة عائشة رضي الله عنها ولكلِّ واحدة منهنَّ؟

قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (يَا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلا عَلَيْكِ أَنْ لا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ ـ حَتَّى بَلَغَ ـ أَجْرًا عَظِيمًا}. قَالَتْ عَائِشَةُ: قَدْ عَلِمَ وَاللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ) رواه البخاري ومسلم.

هذا الموقف يدلُّ على ما قلناه بأن الهجر كان ظاهراً لا باطناً.

ثالثاً: لا يجوز للزوج أن يتحدَّث لأحد عن الخلافات بينه وبين زوجته، ولا عن نشوزها إلا لمن يعلم أنَّه قادر على التدخُّل للإصلاح بينهما، وإلا فهو نوع من أنواع الغيبة المحرَّمة شرعاً، ونوع من أنواع التشهير في الزوجة التي حرَّمها الإسلام.

ليتساءل الزوج إذا تحدَّث عن نشوز زوجته لأمه وأبيه أو لأخيه أو أخته، أو لأقاربه ما الغاية من ذلك؟

تذكَّر أيها الزوج الذي يتكلَّم عن نشوز زوجته، أن زوجتك شريكة حياتك، وأنها أم لأولادك، فكيف ترضى هذا لنفسك؟

حديثك عن زوجتك أمام أولادها وأهلك وأقاربك يورِّث في نفوسهم الفساد والكراهية والبغضاء، إما لك وإما لها، وهذا يثير كرامة الزوجة فتزداد نشوزاً وعناداً، وهذا ليس من مصلحة الأسرة المسلمة.

أسأل الله تعالى أن يردَّنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا ممن انضبط بضوابط الشريعة ظاهراً وباطناً في سائر أحوالنا. آمين.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

**   **   **

 2011-04-01
 12243
الشيخ أحمد شريف النعسان
الملف المرفق
 
 
 

مواضيع اخرى ضمن  خطب الجمعة

30-05-2024 606 مشاهدة
916ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (3)

مُهِمَّتُنَا في هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا العِبَادَةُ، وَمِن العِبَادَةِ، بَلْ مِن أَجَلِّ العِبَادَاتِ وَأَقْدَسِهَا الإِصْلَاحُ، وَالإِصْلَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَرْضِ أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَنِيَّاتِنَا على كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ ... المزيد

 30-05-2024
 
 606
23-05-2024 803 مشاهدة
915ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (2)

المُؤْمِنُ الحَقُّ هُوَ الذي يَسْعَى لِصَلَاحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَهَذَا مَا عَلَّمَنَا إِيَاهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي ... المزيد

 23-05-2024
 
 803
17-05-2024 1097 مشاهدة
914ـ خطبة الجمعة: مهمة المسلم الإصلاح (1)

إِنَّ مُهِمَّةَ العَبْدِ المُؤْمِنِ العِبَادَةُ، وَمِنْ هَذِهِ العِبَادَةِ الإِصْلَاحُ، قَالَ تعالى حِكَايَةً عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا شُعَيْبٍ عَلَيْه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي ... المزيد

 17-05-2024
 
 1097
10-05-2024 853 مشاهدة
913ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (4)

فَرِيضَةُ الحَجِّ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ، وَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. ... المزيد

 10-05-2024
 
 853
02-05-2024 984 مشاهدة
912ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (3)

الحَجُّ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ شَعَائِرِ دِينِنَا العَظِيمِ، فَرَضَهُ اللهُ تعالى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَرَّةً في العُمُرِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنِ الإِسْلَامِ ـ: ... المزيد

 02-05-2024
 
 984
26-04-2024 961 مشاهدة
911ـ خطبة الجمعة: آثار الحج على النفس (2)

لَقَدْ أَكْمَلَ اللهُ تعالى وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْنَا بِهَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، وَعَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ تعالى عَلَيْنَا إِذْ فَرَضَ عَلَيْنَا الحَجَّ في العُمُرِ مَرَّةً وَاحِدَةً، للمُسْتَطِيعِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمِنَ ... المزيد

 26-04-2024
 
 961

البحث في الفتاوى

الفتاوى 5613
المقالات 3168
المكتبة الصوتية 4802
الكتب والمؤلفات 20
الزوار 415620561
جميع الحقوق محفوظة لموقع الشيخ أحمد النعسان © 2024 
برمجة وتطوير :