الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الكِفَايَةِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، هَذَا عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَبَاً لِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي العَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامَاً، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ، قَالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ» أخرجه البخاري.
أَمَّا الحِكْمَةُ مِنَ الاعْتِكَافِ، فَفِيهِ تَسْلِيمُ المُعْتَكِفِ نَفْسِهِ بِالكُلَّيَّةِ إلى عِبَادَةِ اللهِ تعالى، وَإِبْعَادُ النَّفْسِ مِنْ شُغْلِ الدُّنْيَا التي هِيَ مَانِعَةٌ عَمَّا يَطْلُبُهُ العَبْدُ مِنَ القُرْبَى، وَفِيهِ اسْتِغْرَاقُ المُعْتَكِفِ أَوْقَاتِهِ في الصَّلَاةِ إِمَّا حَقِيقَةً وَإِمَّا حُكْمَاً، لِأَنَّ المَقْصِدَ الأَصْلِيَّ مِنْ شَرْعِيَّةِ الاعْتِكَافِ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ في الجَمَاعَاتِ، وَتَشْبِيهُ المُعْتَكِفِ نَفْسِهِ بِالمَلَائِكَةِ الذينَ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَلَا يَفْتُرُونَ. هذا، والله تعالى أعلم.