الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينِ مِثْلُ التَّزَوُّجِ».
وَفي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَه: «لَمْ نَرَ ـ يُرَ ـ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ».
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: خَطَبَ رَجُلٌ شَابٌّ امْرَأَةً قَدْ أَحَبَّتْهُ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهَا إِيَّاهُ، فَسَأَلْتُ طَاوُسًا، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ» وَأَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ.
وَجَاءَ في كَنْزِ العُمَّالِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدَنَا يَتِيمَةٌ خَطَبَهَا رَجُلَانِ مُوسِرٌ وَمُعْسِرٌ، وَهِيَ تَهْوَى المُعْسِرَ وَنَحْنُ نَهْوَى المُوسِرَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ».
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَهُنَاكَ أُمُورٌ يَنْبَغِي تَوْضِيحُهَا في مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
أَوَّلًا: الحَدِيثُ الشَّرِيفُ مَحْمُولٌ ـ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ ـ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ خِطْبَةِ فَتَاةٍ، فَأَعْجَبَتْهُ، وَأَعْجَبَهَا، وَتَعَلَّقَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالآخَرِ، وَلَكِنَّ وَلِيَّ الفتَاةِ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنَ التَّزْوِيجِ، لِفَقْرٍ أَو لِعِلَّةٍ مِنْ عِلَلِ الدُّنْيَا، فَجَاءَ هُنَا التَّوْجِيهُ النَّبَوِيُّ وَالأَمْرُ بِالتَّزْوِيجِ، مَعَ اسْتِحْضَارِ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
ثَانِيًا: لَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ عَلَاقَاتِ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالاخْتِلَاطَ المُحَرَّمَ، وَالأَحَادِيثَ الجَانِبِيَّةَ التي تُثِيرُ الشَّهَوَاتِ، حَرَامٌ شَرْعًا، وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ وَمَنْ وَقَعَ في ذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالإِنَابَةُ، وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ.
ثَالِثًا: أَصْلُ الدَّاءِ يَبْدَأُ مِنَ النَّظْرَةِ المُحَرَّمَةِ، التي هِيَ رَسُولُ البَلَاءِ، وَبَرِيدُ الدَّاءِ إلى القَلْبِ، ثُمَّ يَسْرَحُ القَلْبُ في خَيَالَاتِهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِالمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
رَابِعًا: حَتَّى لَا يَقَعَ الإِنْسَانُ في الكَبِيرَةِ، عَلَيْهِ بِالزَّوَاجِ مِمَّنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا، إِذَا تَابَتْ إلى اللهِ تعالى مِنَ المُخَالَفَاتِ، وَإِلَّا فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ أُمًّا مُرَبِّيَةً لِأَوْلَادِهِ.
فَإِنْ تَابَتْ فَعَلَيْهِمَا بِالحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلُ النِّكَاحِ».
وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنْ يُطْلِقَ الإِنْسَانُ بَصَرَهُ، ثُمَّ يَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ، ثُمَّ يَذْكُرَ الحَدِيثَ الشَّرِيفَ؛ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ إِنْسَانٌ يُخَادِعُ نَفْسَهُ، وَيُسِيءُ فَهْمَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |