الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَأَنْصَحُ الإِخْوَةَ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الجَدَلَ في هَذِهِ المَسَائِلِ:
أَوَّلًا: كُونُوا مُخْلِصِينَ للهِ تعالى، فَكُلُّ قَوْلٍ وَفِعْلٍ سَيُعْرَضُ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. فَالسَّعِيدُ مَنْ رَأَى في صَحِيفَتِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا يُبَيِّضُ وَجْهَهُ، مِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. وَمِنْ خِلَالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
فَالَّذِي يَسْتَحْضِرُ قَوْلَهُ تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ القَوْلَ، وَيُحْسِنُ الخِطَابَ، وَلَا يُكَفِّرُ، وَلَا يُفَسِّقُ، وَلَا يُبَدِّعُ، وَلَا يُضَلِّلُ، وَيَكُونُ حَرِيصًا عَلَى جَمْعِ كَلِمَةِ الأُمَّةِ، لَا عَلَى تَمْزِيقِهَا، وَخَاصَّةً في هَذِهِ الآوِنَةِ.
ثَانِيًا: يَجِبُ عَلَى المُتَجَادِلِينَ أَنْ يَسْتَحْضِرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
فَقَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ أَحَدُهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَحْضِرْ قَوْلَهُ تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾.
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَلَّمَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ عَمَّنْ يَأْخُذُ دِينَهُ، رَوَى ابنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَابْنَ عُمَرَ، دِينَكَ دِينَكَ، إنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ، خُذْ عَنِ الذينَ اسْتَقَامُوا وَلَا تَأْخُذْ عَنِ الذينَ مَالُوا».
عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ عِلْمَهُ عَمَّنْ وَصَفَهُمُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
فَقَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِيَنْظُرْ مَاذَا قَالَ سَلَفُ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ وَالعُلَمَاءِ العَامِلِينَ المُخْلِصِينَ في أَيِّ شَيْءٍ يَتَجَادَلُونَ فِيهِ.
ثَالِثًا: الحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ مِنْ إِضَاعَةِ الوَقْتِ في الجَدَل ِالعَقِيمِ، حَيْثُ يُرِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ إِخْرَاسَ الطَّرَفِ الآخَرِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الجَدَلِ يُمَزِّقُ الأُمَّةَ المُمَزَّقَةَ، وَيَجْعَلُ عَامَّةَ المُسْلِمِينَ في شَكٍّ مِنْ دِينِهِمْ.
رَابِعَا: هَذِهِ الأُمُورُ الَّتِي ذُكِرَتْ في السُّؤَالِ مِنَ المَسَائِلِ الَّتِي جَرَى فِيهَا الخِلَافُ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَالخِلَافُ فِيهَا سَائِغٌ لِوُجُودِ الأَدِلَّةِ عِنْدَ الفُقَهَاءِ، يَقُولُ الإِمَامُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَا يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَلَكِنْ يُنْكَرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ، كَمَا جَاءَ في الأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ.
خَامِسًا: يَجِبُ عَلَى المُتَجَادِلِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ الحَقِّ الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ العُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ مِنْ سَلَفِ الأُمَّةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إلى زَمَنِ التَّابِعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا عَلَى هَذَا المُسْتَوَى، وَحَصَلَ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ، يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِوَاجِبِ الأُخُوَّةِ، وَهُوَ النُّصْحُ وَالإِرْشَادُ وَالبَيَانُ، وَلَا يَكُونُ هَدَفُهُ الانْتِصَارَ لِنَفْسِهِ أَوْ مَنْهَجِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ وَمَا إلى ذَلِكَ، وَعَلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمُ التَّحَلِّي بِالخُلُقِ الحَسَنِ، وَالرِّفْقِ وَاللِّينِ، لِأَنَّ الرِّفْقَ مَا وُجِدَ في شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ.
وَأَخِيرًا: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّجْرِيمِ وَالتَّبْدِيعِ وَالتَّضْلِيلِ بَابٌ عَظِيمٌ وَخَطِيرٌ، وَالأَصْلُ في كُلِّ مُسْلِمٍ البُعْدُ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ لِخُطُورَتِهَا وَشِدَّةِ أَثَرِهَا عَلَى المُسْلِمِينَ عُمُومًا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ المُتَجَادِلُونَ في الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ المُخْتَلَفِ فِيهَا مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ، فَإِنَّهُ يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ في سَائِرِ الأَحْوَالِ، لِأَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾.
بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَلْتَزِمُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.
وَأَهْلُ الذِّكْرُ هُمُ الرَّاسِخُونَ في العِلْمِ، الَّذِينَ أَخَذُوا العِلْمَ عَنِ العُلَمَاءِ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ بِسَنَدِهِمُ المُتَّصِلِ إلى صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْمَعَ شَمْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهَا، وَأَنْ تَعْلَمَ مَا يُرِيدُهُ أَعْدَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الأُمَّةِ، وَأَنْ لَا يَنْسَوْا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾.
يَا أُمَّةَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، اسْمَعِي قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾. وَقَوْلَهُ تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.