الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾.
مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ الدُّخُولُ الحَقِيقِيُّ بِالزَّوْجَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ بَعْدَ الخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بَائِنًا.
جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إذْ لَا رَجْعَةَ فِي عِدَّةِ الْخَلْوَةِ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ مَعَهَا لَمْسٌ، أَوْ نَظَرٌ بِشَهْوَةٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الْوَطْءِ تَعَرُّفُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ تَحَفُّظًا عَنِ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَوَجَبَتْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ بِلَا وَطْءٍ احْتِيَاطًا، وَلَيْسَ مِنَ الِاحْتِيَاطِ تَصْحِيحُ الرَّجْعَةِ. اهـ.
وَجَاءَ فِي المَوْسُوعَةِ الفِقْهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي:
الشَّرْطُ الأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْلَا وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا، إِذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ آخَرَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَحْصُلَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْل أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلَا﴾. إِلَّا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُول مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْلَ أَحْكَامِ الدُّخُولِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الدُّخُول لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَلَا تَكْفِي الْخَلْوَةُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَعِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا صَحَّتْ هَذِهِ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ الأَوَّلِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدُّخُولِ عِنْدَهُمْ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الحَنَابِلَةُ.
وَبِإِمْكَانِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ أَنْ يُجَدِّدَ العَقْدَ عَلَيْهَا الآنَ بِوُجُودِ وَلِيِّ أَمْرِهَا، وَالشُّهُودِ، وَمَهْرٍ جَدِيدٍ؛ وَالطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً شَرْعِيَّةً لَهُ. هذا، والله تعالى أعلم.