الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالحَدِيثُ رَوَاهُ الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ».
وَمَعْنَى الحَدِيثِ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ: بِأَنَّ الأَرْوَاحَ التي يَقُومُ بِهَا الجَسَدُ، وَتَكُونُ بِهَا الحَيَاةُ، هِيَ جُمُوعٌ مُجَمَّعَةٌ، وَأَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا تَوَافَقَ مِنْهَا في الصِّفَاتِ وَتَنَاسَبَ في الأَخْلَاقِ ائْتَلَفَ، وَإِلَّا اخْتَلَفَ.
وَفِي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إلى أَنَّ الأَرْوَاحَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأَجْسَادِ، وَأَنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الحِينِ قِسْمَانِ مِنِ ائْتِلَافٍ وَاخْتِلَافٍ، إِذَا تَقَابَلَتْ وَتَوَاجَهَتْ وائْتَلَفَتْ فِي عَالَمِ الذَّرِ ائْتَلَفَتْ فِي الدُنْيَا، وَالعَكْسُ بِالعَكْسِ.
فَأَهْلُ السَّعَادَةِ مَعَ أَهْلِ السَّعَادَةِ تَوَافُقٌ، وَمَعَ غَيْرِهِمُ اخْتِلَافٌ، فَإِذَا تَلَاقَتِ الأَجْسَادُ التي فِيهَا الأَرْوَاحُ في الدُّنْيَا ائْتَلَفَتْ عَلَى حَسَبِ مَا تَعَارَفَتْ وَائْتَلَفَتْ فِي عَالَمِ الذَّرِّ، وَلِذَا تَرَى الخَيِّرَ يُحِبُّ الأَخْيَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمْ، وَالشِّرِّيرَ يُحِبُّ الأَشْرَارَ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِمْ.
وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
إِنَّ الْـقُـلُوبَ لَأَجْنَـادٌ مُجَنَّدَةٌ *** قَوْلُ الرَّسُولِ فَـمَنْ ذَا فِيهِ يَخْتَلِفُ
فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفٌ *** وَمَا تَـنَـاكَـرَ مِـنْـهَـا فَهُوَ مُخْتَلِفٌ
وَرَحِمَ اللهُ تعالى كَذَلِكَ مَنْ قَالَ:
بَـيْـنِي وَبَيْنَكَ في المَحَبَّةِ نِسْبَةٌ *** مَسْتُورَةٌ عَنْ سِرِّ هَذَا العَالَمِ
نَحْنُ اللَّذَانِ تَحَابَبَتْ أَرْوَاحُنَا *** مِنْ قَبْلِ خَلْقِ اللهِ طِينَةَ آدَمِ
وبناء على ذلك:
فَالأَرْوَاحُ قَبْلَ خَلْقِ الأَجْسَادِ كَانَتْ مَوْجُودَةً، مِنهَا المُتَآلِفُ، وَمِنْهَا المُخْتَلِفُ، وَعِنْدَمَا حَلَّتِ الأَرْوَاحُ في الأَجْسَادِ، انْعَكَسَ هَذَا التَّآلُفُ وَالاخْتِلَافُ في الأَجْسَادِ، فَالخَيِّرُ مَعَ الخَيِّرِينَ، وَالـشَّرِّيرُ مَعَ الشِّرِّيرِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْعَلَنَا في تَآلُفٍ مَعَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.