الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَهَذَا الكَلَامُ لَيْسَ مِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ، بَلِ الحِكْمَةُ العَطَائِيَّةُ هِيَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فَانْظُرْ فِي مَاذَا يُقِيمُكَ؟
هَذِهِ الحِكْمَةُ مُسْتَقَاةٌ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ للهِ سَرَايَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحِلُّ وَتَقِفُ عَلَى مَجَالِسِ الذِّكْرِ فِي الْأَرْضِ، فَارْتَعُوا فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ».
قَالُوا: وَأَيْنَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟
قَالَ: «مَجَالِسُ الذِّكْرِ، فَاغْدُوا وَرُوحُوا فِي ذِكْرِ اللهِ، وَذَكِّرُوهُ أَنْفُسَكُمْ، مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللهِ فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ مَنْزِلَةُ اللهِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ اللهَ يُنْزِلُ الْعَبْدَ مِنْهُ حَيْثُ أَنْزَلَهُ مِنْ نَفْسِهِ».
وَمَعْنَاهَا كَمَا قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّمَا يُطِيعُ العَبْدُ رَبَّهُ عَلَى قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ مِنْهُ.
وَيَقُولُ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ المَكِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا كَانَ العَبْدُ لِنَظَرِ مَوْلَاهُ مُكْرِمًا، وَلِحُرُمَاتِهِ مُعَظِّمًا، وَإِلَى مَحْبُوبِهِ وَمَرْضَاتِهِ مُسَارِعًا، كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي الآخِرَةِ، لِوَجْهِهِ مُكْرِمًا، وَلِشَأْنِهِ مُعَظِّمًا، وَإِلَى مَسَرَّتِهِ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ مُسَارِعًا، وَإِذَا كَانَ العَبْدُ بِحَقِّ مَوْلَاهُ مُتَهَاوِنًا، وَبِأَمْرِهِ مُسْتَخِفًّا، وَلِشَعَائِرِهِ مُسْتَصْغِرًا، كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مُهِينًا، وَبِشَأْنِهِ مُتَهَاوِنًا، إِلَى مَا يَكْرَهُ مِنَ العَذَابِ الأَلِيمِ لَهُ مُسَارِعًا، وَالعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَيَقُولُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، فَوَجَدْتُ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَابْنَ آدَمَ، مَا أَنْصَفْتَنِي، تَذْكُرُنِي وَتَنْسَانِي، وَتَدْعُونِي وَتَفِرُّ مِنِّي، خَيْرِي إِلَيْكَ نَازِلٌ، وَشَرُّكَ إِلَيَّ صَاعِدٌ، وَلَا يَزَالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ نَزَلَ إِلَيْكَ مِنْ أَجْلِكَ، وَلَا يَزَالُ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَدْ صَعِدَ إِلَيَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ، يَابْنَ آدَمَ، إِنَّ أَحَبَّ مَا تَكُونُ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَ مَا تَكُونُ مِنِّي، إِذَا كُنْتَ رَاضِيًا بِمَا قَسَمْتُ لَكَ، وَأَبْغَضَ مَا تَكُونُ إِلَيَّ، وَأَبْعَدَ مَا تَكُونُ مِنِّي، إِذَا كُنْتَ سَاخِطًا لَاهِيًا عَمَّا قَسَمْتُ لَكَ، يَابْنَ آدَمَ، أَطِعْنِي فِيمَا أَمَرْتُكَ، وَلَا تُعْلِمْنِي بِمَا يُصْلِحُكَ، إِنِّي عَالِمٌ بِخَلْقِي، وَأَنَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي، وَأُهِينُ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرِي، وَلَسْتُ بِنَاظِرٍ فِي حَقِّ عَبْدِي حَتَّى يَنْظُرَ عَبْدِي فِي حَقِّي. كَذَا فِي حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ.
فَقَدْرُ العَبْدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ مِنْ خِلَالِ مَا أَقَامَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، فَإِذَا رَأَى العَبْدُ نَفْسَهُ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ لِفِعْلِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ مَعَ الإِخْلَاصِ فَهُوَ عُنْوَانُ المَكَانَةِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيَذْكُرْ عِنْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.
وَلْيَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الوُقُوعِ فِي العُجْبِ وَالغُرُورِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ لَوْلَاهُ مَا قَامَ هَذَا الدِّينُ، فَمَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ؛ يَقُولُ ابْنُ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْصِيَةٌ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَافْتِقَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا.
وَلَقَدْ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ أَعْبُدُ النَّاسِ؟
قَالَ: رَجُلٌ اجْتَرَحَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَكُلَّمَا ذَكَرَ ذُنُوبَهُ احْتَقَرَ عَمَلَهُ. كَذَا فِي حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: أَنِينُ المُذْنِبِينَ عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنْ زَجَلِ المُسَبِّحِينَ عُجْبًا وَافْتِخَارًا. كَذَا فِي البُرْهَانِ المُؤَيَّدِ.
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنَ الغُرُورِ، لِأَنَّهُ مَنْ وَقَعَ فِي الغُرُورِ طَغَى وَضَيَّعَ مَكَانَتَهُ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَّضَ نِعْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لِلسَّلْبِ بَعْدَ العَطَاءِ.
فَيَا صَاحِبَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، لَا تَنْسَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا نِعْمَةَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ وَالإِخْلَاصِ، وَأَنْ لَا يُغَيِّبَ عَنَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ﴾. وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ﴾. وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾. وَقَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَجُمْلَةُ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَقَامَكَ، فَانْظُرْ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَقَامَكَ، لَيْسَتْ مِنَ الحِكَمِ العَطَائِيَّةِ؛ بَلِ الحِكْمَةُ هِيَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فَانْظُرْ فِي مَاذَا يُقِيمُكَ. هذا، والله تعالى أعلم.