الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَمَنْ أَرَادَ الاسْتِقَامَةَ عَلَى شَرْعِ اللهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾.
وَقَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً».
يَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: فِيهِ فَضِيلَةُ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَالنَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَأَهْلِ الْبِدَعِ، وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ، أَوْ يَكْثُرُ فُجْرُهُ وَبَطَالَتُهُ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ. اهـ.
وَيَقُولُ شَقِيقٌ البَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَلَامَةُ التَّوبَةِ البُكَاءُ عَلَى مَا سَلَفَ، وَالخَوْفُ مِنَ الوُقُوْعِ فِي الذَّنْبِ، وَهِجْرَانُ إِخْوَانِ السُّوْءِ، وَمُلَازَمَةُ الأَخْيَارِ. اهـ. كَذَا فِي سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ.
فَحَقُّ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِغَايَةِ جُهْدِهِ مُصَاحَبَةَ الأَخْيَارِ وَمُجَالَسَتَهُمْ، وَأَنْ يَتَجَنَّبَ مُجَالَسَةَ الأَشْرَارِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَائِلَتَهُمْ، وَالطَّبْعُ يَسْرِقُ مِنَ الطَّبْعِ وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَصُحْبَةُ الأَخْيَارِ تُورِثُ الخَيْرَ، وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ تُورِثُ الشَّرَّ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَمَنْ أَرَادَ الاسْتِقَامَةَ عَلَى شَرْعِ اللهِ تَعَالَى، عَلَيْهِ تَرْكُ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَمُصَاحَبَةُ الأَخْيَارِ؛ يَقُولُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: جَالِسُوا التَّوَّابِينَ، فَإِنَّهُمْ أَرَقُّ شَيْءٍ أَفْئِدَةً. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَيَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ رَجُلُا انْقَطَعَ إِلَى هَؤُلَاءِ المُلُوكِ فِي الدُّنْيَا لَانْتَفَعَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْقَطِعُ إِلَى مَنْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى؟ كَذَا فِي صِفَةِ الصَّفْوَةِ.
وَيَقُولُ أَيْضًا: قَلْبُ التَّائِبِ بِمَنْزِلَةِ الزُّجَاجَةِ، يُؤَثِّرُ فِيهَا جَمِيعُ مَا أَصَابَهَا، وَالْمَوْعِظَةُ إِلَى قُلُوبِهِمْ سَرِيعَةٌ، وَهُمْ إِلَى الرِّقَةِ أَقْرَبُ، فَدَاوُوهَا مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ، فَلَرُبَّ تَائِبٍ دَعَتْهُ تَوْبَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى أَوْفَدَتْهُ عَلَيْهَا، وَجَالِسُوا التَّوَّابِينَ؛ فَإِنَّ رَحْمَةَ اللهِ إِلَى التَّوَّابِينَ أَقْرَبُ. كَذَا فِي حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ.
وَعَلَى مُرِيدِ الاسْتِقَامَةِ أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الوُقُوفِ عَلَى بَابِ اللهِ تَعَالَى، وَخَاصَّةً فِي الأَسْحَارِ، وَيَتَمَثَّلَ قَوْلَ القَائِلِ:
أَسِـيرُ الْخَطَايَــا عِـنْدَ بَـابِـك وَاقِـفُ *** عَــلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْـتَ عَــــارِفُ
يَـخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَـغِبْ عَـنْكَ غَـيْـبُهَا *** وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَـهْوَ رَاجٍ وَخَائِــفُ
فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُـتَّقَــى *** وَمَا لَكَ فِي فَـصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِــفُ
فَـيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَـحِيفَـتِــي *** إذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِـنْدَمَــا *** يَصْعَدُ ذَوُو الْقُرْبَى وَيَجْفُو الْمُوَالِــفُ
لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْـوَاسِعُ الَّذِي *** أُرَجِّي لِإِسْرَافِي فَـــإِنِّي لَـــتَالِـــفُ
يَا رَبِّ، اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الاسْتِقَامَةِ، وَدُلَّنَا عَلَى العَارِفِينَ مِنْ عِبَادِكَ، وَأَكْرِمْنَا بِصُحْبَتِهِمْ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.