الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أَوَّلًا: أَوْلِيَاءُ اللهِ تَعَالَى هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا صَادِقًا، وَكَانَ عَمَلُهُ يُصَدِّقُ قَوْلَهُ، وَلَزِمَ العَمَلَ الصَّالِحَ المُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ الإِخْلَاصِ للهِ تَعَالَى فَهُوَ الوَلِيُّ للهِ تَعَالَى.
ثَانِيًا: هَؤُلَاءِ الأَوْلِيَاءُ للهِ تَعَالَى هُمْ غُرَبَاءُ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟
قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَنَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
وَجَاءَ فِي أَحَادِيثِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
قَالُوا: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الَّذِينَ يَزِيدُونَ إِذَا نَقَصَ النَّاسُ» يَعْنِي: هُمُ الَّذِينَ يَزِيدُونَ خَيْرًا وَإِيمًانًا وَاسْتِقَامَةً، إِذَا نَقَصَ هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
فَقِيلَ: مَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ، فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ».
وَجَاءَ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ لِلْقُضَاعِيِّ عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنِ الْغُرَبَاءُ؟
قَالَ: «الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللهِ».
وَرَوَى الآجُرُيُّ عَنْ نَافِعِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى جَالِسًا إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلَكَ أَخُوكَ ـ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ـ هَلَكَ؟
قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ حِبِّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ.
فَقَالَ: مَا هُوَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟
قَالَ: أَخْبَرَنِي «أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَبْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ مُظْلِمَةٍ».
فَهَؤُلَاءِ الغُرَبَاءُ لِقِلَّتِهِمْ فِي النَّاسِ جِدًّا سُمُّوا غُرَبَاءَ، فَأَهْلُ الإِسْلَامِ فِي النَّاسِ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ الإِيمَانِ فِي المُسْلِمِينَ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ العِلْمِ الرَّبَّانِيِّ فِي المُؤْمِنِينَ غُرَبَاءُ.
ثَالِثًا: مِنْ جَوَاهِرِ قَوْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ التِّرِمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟
قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟
قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾.
قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ العَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَبْضِ عَلَى الجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ».
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ ـ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟
قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْكُمْ».
هَؤُلَاءِ الأَوْلِيَاءُ الغُرَبَاءُ عِنْدَمَا سَمِعُوا هَذَا الحَدِيثَ الشَّرِيفَ وَأَمْثَالَهُ آثَرُوا الخَفَاءَ، بَلْ اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ، كَمَا يَقُولُ الإِمَامُ ابْنُ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ لَطَائِفِ المِنَنِ، عَنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ الصَّالِحِينَ وَفَسَادِ الزَّمَنِ: وَفَسَادُ الوَقْتِ لَا يَكُونُ بِذَهَابِ أَعْدَادِهِمْ، وَلَا بِنَقْصِ إِمْدَادِهِمْ، وَلَكِنْ إِذَا فَسَدَ الوَقْتُ كَانَ مُرَادُ اللهِ وُقُوعَ اخْتِفَائِهِمْ مَعَ وُجُودِ بَقَائِهِمْ.
رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَأَوْلِيَاءُ اللهِ تَعَالَى مَوْجُودُونَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَلَكِنْ فِي وَقْتِ فَسَادِ الأَحْوَالِ اخْتَارَ اللهُ تَعَالَى لَهُمُ الخَفَاءَ بِشَكْلٍ عَامٍّ، مَعَ بَقَاءِ أَئِمَّةٍ مِنْهُمْ ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لِيَكُونُوا حُجَّةً عَلَى العِبَادِ، وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: لَا تَقُلْ أَيْنَ الأَوْلِيَاءُ، وَلَكِنْ قُلْ أَيْنَ البَصِيرَةُ كَيْ تَرَى الأَوْلِيَاءَ. هذا، والله تعالى أعلم.