الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالضَّلَالُ في اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ، مِنْهَا الغَفْلَةُ عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ مَعَ البَحْثِ عَنْهُ، وَمِنْهَا الْتِزَامُ البَاطِلِ وَتَرْكُ الحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾. لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الضَّلَالِ هُنَا عَلَى مَا يُقَابِلُ الهُدَى، لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعْصُومُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِسَيِّدِهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ العُلَمَاءِ، وَلِأَنَّهُ مَا وَرَدَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ضَلَّ في العَقِيدَةِ، أَو سَجَدَ لِصَنَمٍ، أَو عَبَدَ غَيْرَ اللهِ تعالى طَرْفَةَ عَيْنٍ، مَعَاذَ اللهِ تعالى.
لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ تَمَامًا، كَانَ يَعْبُدُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ في غَارِ حِرَاءَ، حَتَّى اشْتُهِرَ في قَوْمِهِ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَشِقَ رَبَّهُ. ذكره الإمام الغزالي ½ في الإحياء.
وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ في سُورَةِ النَّجْمِ حَيْثُ قَالَ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾. وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمْ تَكُنْ لَهُ ضَلَالَةُ مَعْصِيَةٍ.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ نَظِيرُ قَوْلِ اللهِ تعالى حِكَايَةً عَنْ أَوْلَادِ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذينَ قَالُوا لِوَالِدِهِمْ: ﴿قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ أَيْ: في كَثْرَةِ حُبِّكَ وَانْشِغَالِكَ بِهِ، وَكَثْرَةِ سُؤَالِكَ وَالبَحْثِ المُتَلَاحِقِ عَنْهُ.
فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَ الحُبِّ للهِ تعالى، مُنْشَغِلَ الفُؤَادِ بِاللهِ تعالى، فَهَدَاهُ اللهُ تعالى إلى الرِّسَالَةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَعَرَّفَهُ المَنْهَجَ الذي يُرِيدُهُ اللهُ تعالى مِنْهُ وَمِنْ أُمَّتِهِ. وَهَذَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّفْسِيرِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: أَيْ وَجَدَكَ غَيْرَ عَالِمٍ بِالنُّبُوَّةِ وَعُلُومِهَا، وَالكِتَابِ المُبِينِ وَمَا حَوَاهُ، فَهَدَاكَ لِذَلِكَ، قَالَ تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهُ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾. وَيَشْهَدُ لِهَذَا المَعْنَى قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾. فَهُوَ تَأْكِيدٌ عَلَى نَفْيِ الضَّلَالِ الذي يُقَابِلُ الهُدَى، حَيْثُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّهِمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالضَّلَالِ عَنْ طَرِيقِ قَوْمِهِ الذينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللهِ تعالى، فَأَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الهِدَايَةِ وَالحَقِّ، وَمَا صَارَ غَاوِيًا مُتَكَلِّمًا بِالبَاطِلِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |