الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَقُولُ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يَقُولُ: طَرِيقَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بِطَاعَتِكَ وَعِبَادَتِكَ مِنَ المَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ. اهـ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَنَحْنُ عِنْدَمَا نَطْلُبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى الهِدَايَةَ لِلصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، فَالمَقْصُودُ مِنَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ هُوَ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالهِدَايَةِ وَالطَّاعَةِ، لَا صِرَاطَ مَنْ كَفَرَ بِنِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي يُسْبِغُهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى العَبْدِ الكَافِرِ، فَهِيَ فِي الحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاجٌ لَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾.
وَلَو نَظَرَ هَؤُلَاءِ الكَافِرُونَ إِلَى نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا مُقَابِلَ العَذَابِ المُعَدِّ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى الدَّوَامِ لَكَانَ كَقَطْرَةٍ فِي البَحْرِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ نِعْمَةً، بَلْ جَمِيعُ هَذِهِ النِّعَمِ تَنْقَلِبُ إِلَى نِقَمٍ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ؛ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ».
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ الإِيمَانِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.