الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالأَوْلَادُ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمَا قُرَّةُ عَيْنٍ لِلْآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. وَقَالَ تَعَالَى عَنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
وَالأَوْلَادُ ذُخْرٌ لِلْآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ». هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: لَقَدْ حَذَّرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى الأَوْلَادِ خَشْيَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ الإِجَابَةِ الَّتِي أَخْفَاهَا اللهُ تعالى عَنْ خَلْقِهِ، رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ».
وَقَدْ أَخْبَرَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دُعَاءَ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ أَو عَلَى وَلَدِهِ مُسْتَجَابٌ، رَوَى ابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ».
وَفي رِوَايَةٍ للتِّرْمِذِيِّ: «وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ».
ثَالِثًا: دُعَاءُ الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ لِلْأَبْنَاءِ مِنْ هَدْيِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهَذَا سَيِّدُنَا زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، يَدْعُو لِوَلَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ فَيَقُولُ: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالدُّعَاءُ مِنَ الوَالِدَيْنِ ٍسَهْمٌ صَائِبٌ، وَقَدْ يُوَافِقُ سَاعَةَ اسْتِجَابَةٍ، فَلْيَتَّقِ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ رَبَّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ في أَوْلَادِهِمْ، وَخُصُوصًا الأُمَّهَاتِ، لِأَنَّهُنَّ كَثِيرَاتُ اللَّعْنِ، وَكَثِيرَاتُ الدُّعَاءِ بِالسُّوءِ عَلَى الأَوْلَادِ، وَخَاصَّةً في سَاعَةِ الغَضَبِ؛ أَيْنَ الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾؟
اسْمَعُوا أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ:
قُطِعَتْ رِجْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِسَبَبِ دَعَاءِ أُمِّهِ، كَمَا جَاءَ في كِتَابِ تَارِيخِ الإِسْلَامِ: قِيلَ: إِنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَطْعِ رِجْلِهِ، فَقَالَ: سَبَبُهُ دُعَاءُ الوَالِدَةِ، كُنْتُ فِي الصِّغَرِ أَخَذْتُ عُصْفُورًا وَرَبَطْتُهُ بِخَيْطٍ فِي رِجْلِهِ، فَطَارَ، وَدَخَلَ فِي خَرْقٍ، فَجَذَبْتُهُ، فَانْقَطَعَتْ رِجْلُهُ، فَتَأَلَّمَتْ أُمِّي، وَقَالَتْ: قَطَعَ اللهُ رِجْلَكَ كَمَا قَطَعْتَ رِجْلَهُ، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَرَحَلْنَا إِلَى بُخَارَى سَقَطْتُ عَنِ الدَّابَّةِ، وَانْكَسَرَتْ رِجْلِي، وَعَمِلَتُ عَمَلًا أَوْجَبَ قَطْعَهَا. اهـ.
وَمِمَّا لَاشَكَّ فِيهِ أَنَّ أُمَّ الزَّمَخْشَرِيِّ هِيَ كَسَائِرِ الأُمَّهَاتِ، عِنْدَمَا دَعَتْ عَلَى وَلَدِهَا كَانَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِهَا لَا بِقَلْبِهَا، وَلَوْ أَنَّهَا عَاشَتْ حَتَّى رَأَتْ رِجْلَ وَلَدِهَا تُقْطَعُ، وَخُيِّرَتْ بَيْنَ قَطْعِ رِجْلِهَا أَوْ رِجْلِ وَلَدِهَا، لَاخْتَارَتْ أَنْ تُقْطَعَ رِجْلُهَا، وَتَسْلَمَ رِجْلُ وَلَدِهَا.
فِي الخِتَامِ: أَيُّهَا الآبَاءُ وَالأُمَّهَاتُ، عَوِّدُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لِلْأَوْلَادِ، لَا عَلَيْهِمْ، وَخَاصَّةً في سَاعَةِ الغَضَبِ، كَمْ وَكَمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ يَقْطُرُ قَلْبُهُمَا دَمًا بَعْدَ اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا. ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾. هذا، والله تعالى أعلم.