الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ قَرَّرَ الفُقَهَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ جِهَةَ القِبْلَةِ أَشْرَفُ الجِهَاتِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ المُحَافَظَةُ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ الاسْتِطَاعَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا، وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ» رَوَاهُ الحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا، وَإِنَّ سَيِّدَ الْمَجَالِسِ قُبَالَةَ الْقِبْلَةِ».
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالقِبْلَةُ هِيَ اتِّجَاهُ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ أَلَا وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَيُطَافُ بِهَا، وَيُهَلُّ بِهَا حِينَ يُهَلُّ بِالحَجِّ، وَيَسْتَقْبِلُهَا المُؤْمِنُ عَلَى الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَعِنْدَ سَائِرِ مَنَاسِكِ الحَجِّ، وَيَسْتَقْبِلُهَا في صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَحَتَّى المَيْتُ عِنْدَ دَفْنِهِ يُوَجَّهُ إِلَيْهَا.
كُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى تَكْرِيمِ جِهَةِ القِبْلَةِ حَتَّى فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى هَذَا التَّكْرِيمِ النَّهْيُ الصَّرِيحُ عَنِ اسْتِقْبَالِ القِبْلَةِ أَوِ اسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الحَاجَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا جَلَسَ جَلَسَ مُسْتَقْبِلًا القِبْلَةِ، رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْغَدَاةِ، وَقَدْ أَضَافَ قَوْمٌ ظُهُورَهُمْ إِلَى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَخِّرُوا هَكَذَا عَنْ وُجُوهِ الْمَلَائِكَةِ.
وَقَدْ عَبَّرَ الإِمَامُ المُنَاوِيُّ عَنْ ذَلِكَ تَعْبِيرًا حَسَنًا، فَقَالَ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ مِنَ العَبْدِ عَلَى نِظَامِ العُبُودِيَّةِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَقُعُودِهِ وَقِيَامِهِ وَشَرَابِهِ وَطَعَامِهِ تَشْرُفُ حَالَتُهُ بِذَلِكَ فَيَتَحَرَّى القِبْلَةَ فِي مَجْلِسِهِ وَيَسْتَشْعِرُ هَيْئَتَهَا فَلَا يَعْبَثُ فَيُسَنُّ المُحَافَظَةُ عَلَى اسْتِقْبَالِهَا. اهـ. كَذَا فِي فَيْضِ القَدِيرِ.
وَأَمَّا عِنْدَ زِيَارَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ زَائِرَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَدْبِرُ القِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِلُ القَبْرَ الشَّرِيفَ. كَذَا فِي المَوْسُوعَةِ الفِقْهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ.
وَقَدْ سَمِعْنَا مِنْ مَشَايِخِنَا جَزَاهُمُ اللهُ تعالى عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ أَنَّهُ مَا فُتِحَ عَلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تعالى إِلَّا وَهُوَ وَمُسْتَقْبِلٌ القِبْلَةَ.
فَحَاوِلْ أَنْ تَتَوَجَّهَ أَخِي الكَرِيمُ إلى القِبْلَةِ فِي سَائِرِ شُؤُونِكَ مَا اسْتَطَعْتَ إلى ذَلِكَ سَبِيلًا. هذا، والله تعالى أعلم.