الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية يحرم شرعاً بنصِّ القرآن العظيم، بقوله تبارك وتعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، وسواء أكان هذا النظر بشهوة أم بغير شهوة.
ولكن اتَّفق الفقهاء على أنه يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية إذا أراد زواجها وغلب على ظنه أن أهلها يوافقون على زواجه منها، كما جاء في نهاية المحتاج قوله: (وإذا قصد نكاحها ورجا الإجابة رجاء ظاهراً ـ كما قاله العز بن عبد السلام، لأنه لا يجوز إلا عند غلبة الظنِّ المُجَوِّز ـ سُنَّ نظره إليها، للأمر به في الخبر الصحيح مع تعليله بأنه أحرى أن يؤدم بينهما، أي: تدوم الألفة) اهـ.
ولم يشترط جمهور الفقهاء لمشروعية نظر الخاطب إلى المخطوبة أمنَ الفتنة أو الشهوة، بل قالوا: ينظر لغرض التزوّج، كما جاء في حاشية ردّ المحتار على الدرِّ المختار قوله: (وكذا مريد نكاحها ولو عن شهوة بنية السنة لا قضاء الشهوة) اهـ.
وله أن يكرِّر النظر إلى مخطوبته حتى يتبيَّن له هيئتها فلا يندم على نكاحها، ويتقيَّد في ذلك بقدر الحاجة، ومن ثَمَّ لو اكتفى بنظرةٍ حَرُمَ ما زاد عليها، لأنه نظرٌ أُبيحَ لحاجةٍ فيتقيَّد بها. كما جاء في نهاية المحتاج: (وله تكرير نظره ولو أكثر من ثلاث فيما يظهر، حتى يتبين له هيئتها، ومن ثم لو اكتفى بنظرة حرم ما زاد عليها؛ لأنه نظرٌ أُبيح لضرورة فليتقيد بها، وسواء في ذلك أخاف الفتنة أم لا). وكما جاء في حاشية ابن عابدين رحمه الله: (وَتَقْيِيدُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا كَانَ لِحَاجَةٍ: أَنَّهُ لَوْ اكْتَفَى بِالنَّظَرِ إلَيْهَا بِمَرَّةٍ حَرُمَ الزَّائِدُ؛ لأَنَّهُ أُبِيحَ لِضَرُورَةٍ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا).
وبناء على ذلك:
فإذا تمَّت الخطبة، وتوافق الخاطبان، فإنه يعود المحظور كما كان، فيحرم النظر إلى المخطوبة من قِبل الخاطب، لأنها أجنبية عنه حتى يتمَّ العقد، وذلك لقول الله عز وجل: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَا عَلِيُّ لا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الُْولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ) رواه أبو داود والترمذي. ولأدلة تحريم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية، وكذلك اتَّفق الفقهاء على تحريم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية بشهوة، والمخطوبة امرأة أجنبية عن خاطبها حتى يتمَّ العقد.
وإني أُحذِّر كلَّ غيور على عرضه من التساهل في هذه المسألة، لأن الكوارث كبيرة وكثيرة، والواقع يصدِّق هذا، ولأن جُلَّ أحاديث الخاطبين ـ كما هو الواقع ـ ممزوج بالشهوات، فإذا كان الكلام مثيراً للشهوات، والنظر مثيراً للشهوات، فما هي النتائج؟
لذلك ركَّز فقهاؤنا أهل التقى والصلاح والورع على تحريم النظر إلى المخطوبة بعد أن تتمَّ الموافقة على الزواج، لأن المحظور هو الأصل، والنظر أباحه الشرع للضرورة، وتنتهي الضرورة بالاتفاق على الزواج. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |