الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} هو قول معطوف على الآية السابقة في ذكر المحرَّمات، والمقصود بالمحصنات هنا المتزوِّجات، فما دامت المرأة متزوِّجة فلا يحلُّ نكاحها.
والإحصان في القرآن العظيم يُطلق ويراد منه العفة، كما في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}.
ويراد منه كذلك الحرَّة، كما في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}.
ويراد منه كذلك المتزوِّجة، كما في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}، أي يحرم نكاح المتزوِّجة، وهذا ما كتبه الله عليكم، وهو أمر مسجَّل موثَّق.
أما قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي أحلَّ الله لكم ما وراء ذلكم أن تتزوجوهنَّ وتدفعوا لهنَّ المهور المتَّفق عليها، واحذروا أن تدفعوا هذا المال بقصد السفاح، بل ادفعوه بقصد الزواج والإعفاف.
إذاً المحرمات هنَّ محرَّمات النسب، ومحرَّمات الرضاع، ومحرَّمات بالإحصان ـ يعني المتزوِّجات ـ.
قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}، المهر يسمى أجراً، وهو في مقابل البضع (الاستمتاع)، ويؤكد هذا حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لا وَلِيَّ لَهُ) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن.
ولا تُحمل الآية على نكاح المتعة، لأنه نكاح حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لأن الله تعالى يقول: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدي عدل، وعدم التوقيت، ونكاح المتعة ليس كذلك.
ودلَّ قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} على جواز الزيادة والنقصان في المهر، فهو سائغ وجائز شرعاً عند التراضي بعد استقرار المتفق عليه.
أما قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فهو إرشاد لمن لم يجد المال والسعة ليتمكَّن من الزواج بالحرائر، فله أن يتزوَّج بالإماء.
وظاهر الآية يدلُّ على أن الزواج من الإماء مشروط بثلاثة شروط:
1ـ ألا يجد الزوج صداق الحرة.
2ـ أن يخشى الوقوع في الزنى.
3ـ أن تكون الأمة مؤمنة غير كافرة.
وعلى كلِّ حال الإماء غير موجودات اليوم، فالتوسع في الحديث عنه الآن في غير محلِّه.
وشرط استحقاق الإماء المهور أن يكنَّ عفيفات، لا مستأجرات للبغاء جهراً، وهنَّ المسافحات، ولا سراً وهنَّ متَّخذات الأخدان.
فالمراد بالمحصنات هنا: العفيفات، والمراد بالمسافحة هي الزانية جهراً، والتي تتخذ الخدن هي التي تتخذ صاحباً سراً.
أما قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}. فقد بيَّن الله تبارك وتعالى عقوبة الحد على الزانية الأمة، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرة، وذلك لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}، أي الإماء إذا زنين بعد إحصانهنَّ بالزواج، فحدُّهنَّ نصف حدِّ الحرائر، وهو خمسون جلدة.
فالمقصود من المحصنات في قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} هنَّ الحرائر لا المتزوِّجات، كما قلنا سابقاً في معنى الإحصان.
لأن هناك من يحاول إلغاء حد الرجم استشهاداً بهذه الآية الكريمة، وهو خلاف رأي جمهور الفقهاء والعلماء، والله تعالى أعلم.
وختمت الآية بقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}، فذكرت شرطاً آخر لإباحة نكاح الإماء، وهو الخوف من الزنى.
ثم أوصى ربُّنا تبارك وتعالى بقوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}، أي: إن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنَّ، وإن أبيح لكم ذلك للضرورة بالشروط.
أما قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} فيريد الله تبارك وتعالى أن يبين لكم التكاليف والأحكام الشرعية، ويميز لكم الحلال من الحرام، ويرشدكم إلى ما فيه مصلحتكم، ويريد أن يقبل توبتكم من الإثم والمحارم. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |