الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنَّ الله تبارك وتعالى خلق عباده وجعل لهم حياتين: الأولى في الدنيا، ولها بدايةٌ ونهايةٌ، والثانية في الآخرة، لها بدايةٌ وليس لها نهايةً.
يقول الله تعالى عن الحياة الدنيا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان}. ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} ويقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُون}. ويقول:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}.
أما الحياة في الآخرة فهي حياة سرمديَّة أبديَّة لا نهاية لها، وينقسم فيها العباد إلى قسمين، قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير}.
والآيات التي تشير إلى خلود الفريقين كثيرة: من هذه الآيات في حقِّ أهل الجنة قوله تعالى: {قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم}. وقوله تعالى في حقِّ أهل النار: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}. إلى غيرها من الآيات التي تشير إلى الخلودِ في الجنة والخلودِ في النار والعياذ بالله تعالى.
والمقصود بكلمة الأبد للفريقين هو الخلود الدائم في الآخرة، حيث لا يموت فيها العبد، سواء كان من أهل الجنة أو من أهل النار والعياذ بالله تعالى.
من هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُون}. وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيى}. وقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى}.
وهذا ما أكَّده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (يُؤْتَى بِالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ! فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ؛ ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ}. وَهَؤُلاءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا: {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}).
وفي رواية أخرى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا صَارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إِلَى الجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ).
وفي رواية أخرى أيضاً عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لا مَوْتَ، خُلُودٌ).
وروى الإمام مسلم عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأَسُوا أَبَدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}).
وبناء على ذلك:
فالمقصود بالأبد لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار، هو الخلود الدائم لكلٍّ من الفريقين، وهناك من يظن بأنَّ الأبد هو مدة طويلة، ثم يُخرِجُ الله تعالى أهلَ النار من النار، وهذا مردود بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}. وقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى}. وبقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (خُلُودٌ).
أجارنا الله تعالى من نار جهنم، وجعلنا من أهل الجنة بفضله ورحمته. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |