الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: الفِتنَةُ في اللُّغَةِ: الابتِلاءُ والامتِحَانُ، مَأخُوذَةٌ من قَولِكَ: فَتَنتُ الفِضَّةَ والذَّهَبَ، أَذَبتُهُمَا بالنَّارِ، لِيَتَمَيَّزَ الرَّدِيءُ من الجَيِّدِ، ومن هذا قَولُ اللهِ تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾. أي: يُحرَقُونَ.
وقد كَثُرَ استِعمَالُ كَلِمَةِ الفِتنَةِ في القُرآنِ العَظِيمِ، وفي كُلِّ مَوطِنٍ لَهَا مَعنَىً، فَأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الاختِبَارِ والابتِلاءِ، قال تعالى: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾؟
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الصَّدِّ عن سَبِيلِ اللهِ، قال تعالى: ﴿وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى العَذَابِ، قال تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الشِّرْكِ والكُفْرِ، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى النِّفَاقِ، قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ﴾. يَعنِي: أَوقَعتُمُوهَا في النِّفَاقِ.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى اشتِبَاهِ الحَقِّ بالبَاطِلِ، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الإضلالِ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى القَتْلِ والأَسْرِ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الاختِلافِ بَينَ النَّاسِ، قال تعالى: ﴿وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الجُنُونِ، قال تعالى: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾.
وأَحيَانَاً تَأتِي بِمَعنَى الإحرَاقِ بالنَّارِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾.
ثانياً: أمَّا إذا جَاءَت كَلِمَةُ الفِتنَةِ مُضَافَةً إلى اللهِ تعالى، أو أَضَافَهَا رَسُولُهُ إِلَيهِ، تَكُونُ بِمَعنَى الاختِبَارِ والابتِلاءِ من اللهِ تعالى لِعِبَادِهِ بالخَيرِ والشَّرِّ، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾. وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾. وقال تعالى حِكَايَةً عن سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾.
وبناء على ذلك:
فَقَولُهُ تعالى حِكَايَةً عن سَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ﴾. أي: اختِبَارُكَ وابتِلاؤُكَ، وهذا تَأكِيدٌ لِقَولِهِ السَّابِقِ لهذهِ الآيَةِ الكَريمَةِ: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾. يَعنِي: لا تُهلِكْنَا بِفِعلِهِم، فإنَّ تِلكَ الفِتنَةَ كَانَتِ اختِبَارَاً مِنكَ وابتِلاءً أَضلَلْتَ بِهَا قَومَاً فَافتُتِنُوا، وهَدَيتَ قَومَاً فَعَصَمتَهُم حَتَّى ثَبَتُوا على دِينِكَ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |