الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَهَذِهِ دَعْوَةٌ قَدِيمَةٌ حَدِيثَةٌ، أَرَادَهَا اليَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ زَمَنٍ قَدِيمٍ، أَرَادُوا مِنَ المُسْلِمِينَ التَّنَازُلَ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ، أَو أَنْ يَعْتَبِرُوا دِينَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى حَقًّا، وَأَنَّهُمْ مِنَ النَّاجِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقَدْ أَوْضَحَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ في كِتَابِهِ هَذَا الأَمْرَ وُضُوحًا تَامًّا، فَقَالَ تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وَقَالَ تعالى بِبَيَانٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
وَهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الانْتِسَابِ إلى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ أَثْبَتَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بُطْلَانَ انْتِسَابِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: احْتَارَ أَعْدَاءُ الأُمَّةِ في غِوَايَةِ المُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ مُصَارَعَةِ هَذَا الدِّينِ بِالعِلْمِ وَالمَنْطِقِ، فَأَطْلَقُوا شِعَارَاتٍ بَرَّاقَةً لِغِوَايَةِ المُسْلِمِينَ، فَتَارَةً يَقُولُونَ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الدِّيَانَةُ دِيَانَةً عَالَمِيَّةً، وَأَحْيَانًا يَقُولُونَ بِوَحْدَةِ الأَدْيَانِ، وَالآنَ يَقُولُونَ بِالدِّيَانَةِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ، وَكُلُّهَا جِسْرٌ لِهَدْمِ هَذَا الدِّينِ الذي تَوَلَّى اللهُ تعالى حِفْظَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثَالِثًا: مِنْ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ جَعَلَهَا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهَا، فَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.
ثُمَّ قَالَ بِبَيَانٍ وَاضِحٍ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾. وَقَالَ: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾.
رَابِعًا: الدَّعْوَةُ إلى دِيَانَةٍ تُسَمَّى إِبْرَاهِيميَّةً، حَيْثُ تُدْمَجُ اليَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَعَ الإِسْلَامِ، هِيَ دَعْوَةُ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ في العَقِيدَةِ؛ وَأَصْحَابُ هَذِهِ الدِّيَانَةِ:
1ـ يُرِيدُونَ الجَمْعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، يُرِيدُونَ جَمْعَ الأَضْدَادِ، يُرِيدُونَ الجَمْعَ بَيْنَ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقَوْلِ: عِيسَى ابْنُ اللهِ، وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَالمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ.
2ـ يُرِيدُونَ التَّشْوِيشِ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَجَعْلَ الشُّبُهَاتِ مَعَ الشَّهَوَاتِ في صُفُوفِهِمْ، وَخَاصَّةً في الشَبَابِ.
3ـ يُرِيدُونَ قَصْرَ مَدِّ الإِسْلَامِ الذي صَارَ مَعْلُومًا وَوَاضِحًا في العَالَمِ أَجْمَعَ، رَغْمًا عَنْ أُنُوفِهِمْ.
4ـ يُرِيدُونَ القَضَاءَ عَلَى الإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
5ـ وَرُبَّمَا الأَهَمُّ مِنْ هَذَا يُرِيدُونَ كَفَّ الَأَلْسُنِ وَالأَقْلَامِ عَنْ تَكْفِيرِ مَنْ كَفَّرَهُمْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِنَصِّ القُرْآنِ العَظِيمِ، قَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾.
6ـ يُرِيدُونَ عَزْلَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ عَنِ الحَيَاةِ السُّلُوكِيَّةِ للبَشَرِ، حَتَّى يَسْرَحُوا وَيَمْرَحُوا في الدَّعْوَةِ إلى الانْحِلَالِ وَالشَّهَوَاتِ، قَالَ تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾.
7ـ يُرِيدُونَ هَدْمَ الأَخْلَاقِ وَالقِيَمِ، وَتَضْيِيعَ الأَنْسَابِ.
8ـ وَمِنْ وَرَاءِ كُلِّ هَذَا يُرِيدُونَ تَمْهِيدَ السُّبُلِ لِلتَّنْصِيرِ، وَبَسْطِ جَنَاحِ الكُفَّارِ مِنْ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَلَاحِدَةِ عَلَى العَالَمِ بِأَسْرِهِ.
9ـ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالدَّعْوَةُ إلى الدِّيَانَةِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ المَزْعُومَةِ المُخْتَرَعةِ دَعْوَةٌ لِتَرْكِيعِ المُسْلِمِينَ، وَتَطْبِيعِ المُسْلِمِينَ بِطَابَعِ الشِّرْكِ، وَالخُضُوعِ لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ، وَجَعْلِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ المَتْبُوعَةِ أُمَّةً تَابِعَةً لِأَئِمَّةِ الضَّلَالِ في العَقِيدَةِ وَالسُّلُوكِ وَالأَخْلَاقِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَحْفَظَنَا وَشَبَابَ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الضَّلَالِ وَالغِوَايَةِ، وَأَنْ يُلْهِمَ العُلَمَاءَ العَامِلِينَ التَّصَدِّيَ لِهَذِهِ الدَّعْوَةِ الفَتَّاكَةِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |