الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ مَحَلَّ العَقْلِ الدِّمَاغُ، وَهَذَا كَلَامُ الفَلَاسِفَةِ، وَالحَقِيقَةُ التي تَعَلَّمْنَاهَا مِنَ القُرْآنِ العَظِيمِ أَنَّ مَحَلَّ العَقْلِ القَلْبُ.
وَالعَقْلُ نُورٌ رُوحَانِيٌّ تُدْرِكُ بِهِ النَّفْسُ العُلُومَ النَّظَرِيَّةَ وَالضَّرُورِيَّةَ، وَإِنَّ مَنْ خَلَقَهُ وَأَبْرَزَهُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، وَزَيَّنَ بِهِ العُقَلَاءَ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ، أَعْلَمُ بِمَكَانِهِ الذي جَعَلَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ اللهِ تعالى أَعْلَمَ بِمَكَانِ العَقْلِ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾. وَقَالَ تعالى عَنْ ذَاتِهِ: ﴿أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ﴾. هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: يَغْلِبُ في القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِطْلَاقُ القَلْبِ؛ وَالمُرَادُ هُوَ العَقْلُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾. لَقَدْ عَابَهُمُ اللهُ تعالى لِأَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ، وَالفَهْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالعَقْلِ، وَلَمْ يَقُلْ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: لَهُمْ أَدْمِغَةٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا.
وَقَالَ تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾. أَطْلَقَ القَلْبَ وَأَرَادَ العَقْلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ العَقْلِ القَلْبُ؛ وَلَمْ يَقُلْ: تَعْمَى الأَدْمِغَةُ التي في الرُّؤُوسِ.
وَهُنَاكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ القَلْبَ مَحَلُّ العَقْلِ، وَلَيْسَ الدِّمَاغَ، قَالَ تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟ وَقَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾. وَلَمْ يَقُلْ: فَطُبِعَ عَلَى أَدْمِغَتِهِمْ.
وَقَالَ تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾. وَهَذَا صَرِيحٌ في أَنَّ المَحَلَّ الذي يَدْخُلُهُ الإِيمَانُ هُوَ القَلْبُ، لِأَنَّ الجَوَارِحَ كُلَّهَا تَبَعٌ للقَلْبِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الشَّيْخَانِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ».
ثَالِثًا: قَدْ أَقَرَّ كُلٌّ مِنَ اليَهُودِ وَالمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ عُقُولِهِمْ قُلُوبُهُمْ، قَالَ تعالى عَنِ اليَهُودِ: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾. فَقَالَ تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾. فَالقَلْبُ هُوَ مَحَلُّ الفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ.
وَأَمَّا المُشْرِكُونَ، قَالَ تعالى عَنْهُمْ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾. فَكَانُوا عَالِمِينَ أَنَّ مَحَلَّ العَقْلِ القَلْبُ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تعالى في القُرْآنِ الكَرِيمِ القَلْبَ وَأَرَادَ بِهِ العَقْلَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ العَقْلِ القَلْبُ، وَهَذِهِ مِنَ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ التي يَتَوَقَّفُ فِيهَا الأَمْرُ عَلَى بَيَانِ مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ، وَالعَقْلُ هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |