الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ».
الَمعِيبُ فِي حَقِّ الإِنْسَانِ أَنْ يُدَقِّقَ فِي عَيْبِ أَخِيهِ، وَلَا يُدَقِّقَ فِي عَيْبِ نَفْسِهِ، يُحَاوِلُ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ عُيُوبِ الآخَرِينَ، وَيَتَنَاسَى عُيُوبَهُ الَّتِي يَعْلَمُهَا، وَلَوِ اشْتَغَلَ الإِنْسَانُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ لَكَفَّ عَنِ اتِّبَاعِ عُيُوبِ الآخَرِينَ.
رَحِمَ اللهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْكِي عَـلَى مَوْتِ غَـيْرِهِ *** دُمُوعًا وَلَا يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ *** عَظِيمًا وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِهِ عَمَى
وَيَقُولُ أَبُو حَاتِمٍ بْنُ حِبَّانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الوَاجِبُ عَلَى العَاقِلِ لُزُومُ السَّلَامَةِ بِتَرْكِ التَّجَسُّسِ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، مَعَ الاشْتِغَالِ بِإِصْلَاحِ عُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعُيُوبِهِ عَنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ أَرَاحَ بَدَنَهُ وَلَمْ يُتْعِبْ قَلْبَهُ، فَكُلَّمَا اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ لِنَفْسِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَا يَرَى مِثْلَهُ مِنْ أَخِيهِ، وَإِنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِعُيُوبِ النَّاسِ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ عَمَى قَلْبُهُ وَتَعِبَ بَدَنُهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَرْكُ عُيُوبِ نَفْسِهِ، وَإِنَّ مِنْ أَعْجَزِ النَّاسِ مَنْ عَابَ النَّاسَ بِمَا فِيهِمْ، وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ عَابَهُمْ بِمَا فِيهِ، مَنْ عَابَ النَّاسَ عَابُوهُ. اهـ.
وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى القَائِلَ:
المَرْءُ إِنْ كَانَ عَـاقِلًا وَرِعًا *** أَشْغَلَهُ عَنْ عُيُوبِ غَيْرِهِ وَرَعُهُ
كَمَا العَلِيلُ السَّقِيمُ أَشْغَلَهُ *** عَنْ وَجَعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ وَجَعُهُ
وَيَقُولُ أَبُو البُخْتُرِيُّ العَنْبَرِيُّ:
يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِ غَـيْرِيَ الَّذِي *** أَعْرَفُهُ عِـنْدِي مِنَ العَيْبِ
عَـيْبِي لَـهُمُ بِـالظَّنِّ مِـنِّي بَـدَا *** وَلَسْتُ مِنْ عَيْبِيَ فِي رَيْبِ
إِنْ كَانَ عَيْبِي غَابَ عَنْهُمْ فَقَدْ *** أَحْصَى عُيُوبِي عَالِمُ الغَيْبِ
جَاءَ فِي كِتَابِ المُجَالَسَةِ وَجَوَاهِرِ العِلْمِ عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَقُولُ: لَقِيَ زَاهِدٌ زَاهِدًا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالَ الْآخَرُ: لَوْ عَلِمْتَ مِنِّي مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي؛ لَأَبْغَضْتَنِي فِي اللهِ.
فَقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ: لَوْ عَلِمْتُ مِنْكَ مَا تَعْلَمُ مِنْ نَفْسِكَ؛ لَكَانَ لِي فِيمَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي شُغْلٌ عَنْ بُغْضِكَ.
قَبِيحٌ مِنَ الإِنْسَانِ أَنْ يَنْسَى عُيُوبَهُ *** وَيَذْكُرَ عَيْبًا فِي أَخِيهِ قَدِ اخْتَفَى
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَـمَـا عَابَ غَيْرَهُ *** وَفِيهِ عُيُوبٌ لَـوْ رَآهَا قَدِ اكْتَفَى
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالعَاقِلُ الَّذِي انْشَغَلَ بِعُيُوبِهِ عَنْ عُيُوبِ الآخَرِينَ، لِأَنَّ العَبْدَ سَوْفَ يُسْأَلُ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنِ الآخَرِينَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ تَنْفِرُ مِنَ الآخَرِينَ بِسَبَبِ عُيُوبِهِمْ، فَعَلَيْكَ أَنْ تَنْفِرَ مِنْ نَفْسِكَ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ، أَنْتَ مَأْمُورٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. جَاهِدْ نَفْسَكَ لِمَا تَعْلَمُ مِنْهَا، وَأَحْسِنِ الظَّنَّ بِالآخَرِينَ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلِاشْتِغَالِ بِعُيُوبِ أَنْفُسِنَا. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.