الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أَوَّلًا: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا؛ يَعْنِي: فِي الْجِنَازَةِ.
وَرَوَى كَذَلِكَ أَنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، كَانَا بِالْقَادِسِيَّةِ فَمَرَّتْ بِهِمَا جِنَازَةٌ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَقَالَا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ، فَقَامَ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا».
وَرَوَى كَذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ حَتَّى تَوَارَتْ.
وَرَوَى كَذَلِكَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّتْ جِنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَقُمْنَا مَعَهُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا».
وَرَوَى كَذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ».
وَرَوَى كَذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الْجِنَازَةَ، فَلْيَقُمْ حِينَ يَرَاهَا حَتَّى تُخَلِّفَهُ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّبِعِهَا».
ثَانِيًا: يَقُولُ شَمْسُ الأَئِمَّةِ الحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا كَانَ القَوْمُ فِي المُصَلَّى فَجِيءَ بِالجِنَازَةِ هَلْ يَقُومُونَ لَهَا إِذَا رَأَوْهَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ؟ فِيهِ كَلَامٌ، مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: يَقُومُونَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فَمَرَّتْ عَلَيْهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ فَزِعًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ.
فَقَالَ: «مَا قُمْتُ لَهَا، وَإِنَّمَا قُمْتُ فَزَعًا مِنَ المَوْتِ»، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَقُومُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ. اهـ. كَذَا فِي المُحِيطِ البُرْهَانِيِّ فِي الفِقْهِ النُّعْمَانِيِّ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِهِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: الْقِيَامُ مَنْسُوخٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيَّانِ: هُوَ مُخَيَّرٌ. اهـ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِيهَا، وَحَسَمَهَا الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: اخْتَارَ الْمُتَوَلِّي مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَيَكُونُ الأَمْرُ بِهِ لِلنَّدْبِ، وَالْقُعُودُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَلَا يَصِحُّ دَعْوَى النَّسْخِ فِي مِثْل هَذَا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ وَلَمْ يَتَعَذَّرْ. اهـ.
فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَقُومَ لِلْجِنَازَةِ فَلْيَقُمْ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ لَا يَقُومَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ. هذا، والله تعالى أعلم.