الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِشْكَمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْخُشَنِيَّ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي، وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ.
قَالَ: فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَ فِيَّ النَّظَرَ، فَقَالَ: «الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ».
هَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ شُبْهَةٌ وَرِيبَةٌ وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ القَلْبُ، أَنَّ السَّلَامَةَ فِي تَرْكِهِ، وَلَوْ حَصَلَ إِفْتَاءُ المُفْتُونَ بِهِ.
وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيَخَافُ اللهَ تَعَالَى وَيَتَّقِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ قَلْبُهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِفْتَاءُ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِمَّنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي المَسْأَلَةِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي المَسْأَلَةِ دَلِيلٌ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَالمُتَعَيِّنُ المَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَاسْتِفْتَاءُ القَلْبِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الفُجُورِ وَالمَعَاصِي، فَإِنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ قَدْ يُجَاهِرُ بِالمَعَاصِي وَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَا مِنْ خَلْقِهِ، فَمِثْلُ أُولَئِكَ يَقَعُونَ فِي الحَرَامِ البَيِّنِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى المُشْتَبَهِ.
وَفِي الحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لِلْقُلُوبِ إِدْرَاكًا تَمِيلُ بِهِ إِلَى الخَيْرِ، وَتَنْفِرُ بِهِ عَنِ الشَّرِّ، وَهَذَا هُوَ الوَازِعُ الإِيمَانِيُّ، وَرُبَّمَا أَنْ يَكُونَ هَذَا خَاصًّا بِبَعْضِ القُلُوبِ الَّتِي صُفِّيَتْ مِنَ الأَغْيَارِ، وَمُلِئَتْ بِمَعِينِ المَعَارِفِ الإِلَهِيَّةِ، وَالأَنْوَارِ مِنْ شَمْسِ الهِدَايَةِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِذَلِكَ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالمَقْصُودُ ـ وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ـ أَنَّ مَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُ الفُتْيَا فِي المَسَائِلِ الخِلَافِيَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ، فَلْيَأْخُذْ بِهِ، وَإِلَّا فَلْيَدَعْهُ، وَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا رِيبَةَ، وَلْيَسْمَعْ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَهَذَا الْأَمْرُ مِثْلَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
وَالخُلَاصَةُ: اسْتِفْتَاءُ الْقَلْبِ يَكُونُ فِي حَقِّ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَا زَالَ الوَازِعُ الإِيمَانِيُّ فِي قُلُوبِهِمْ قَوِيًّا، أَمَّا أَهْلُ الفُجُورِ وَالعِصْيَانِ، فَقُلُوبُهُمْ تُفْتِيهِمْ بِارْتِكَابِ المَعَاصِي، وَالأُمُورِ القَبِيحَةِ الوَاضِحَةِ الَّتِي لَا خَفَاءَ فِيهَا وَلَا لَبْسَ، فَضْلًا عَنِ الأُمُورِ المُشْتَبِهَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى اسْتِفْتَاءِ القَلْبِ. هذا، والله تعالى أعلم.