الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَشْتَكِي، وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُقْيَةِ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ.
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَ اللهُ الْجَمِيعَ، إِلَى جَوَازِ رُقْيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِلْمُسْلِمِ إِذَا رَقَى بِكِتَابِ اللهِ وَبِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى: رُقْيَةٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ: أَكْرَهُ رُقَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا أُحِبُّهُ.
لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ هَلْ يَرْقُونَ بِكِتَابِ اللهِ أَمْ بِالْمَكْرُوهِ الَّذِي يُضَاهِي السِّحْرَ؟
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَحَقِيقَةُ الرُّقْيَةِ تَعْوِيذٌ يَكُونُ سَبَبًا فِي رَفْعِ مَرَضٍ، أَوْ وِقَايَةِ شَرٍّ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي، إِذَا أَصَابَ مَوْقِعَ الْمَرَضِ حَصَلَتِ الْفَائِدَةُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَالشِّفَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِنَ الدَّوَاءِ وَلَا مِنَ الطَّبِيبِ وَلَا مِنَ الرَّاقِي، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾.
وَلَيْسَ هُنَاكَ تَرَابُطٌ بَيْنَ عَقِيدَةِ الرَّاقِي أَوِ الْمَرْقِيِّ وَبَيْنَ اسْتِفَادَتِهِ مِنَ الرُّقْيَةِ.
وَعَلَيْهِ: فَتَصِحُّ الرُّقْيَةُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا؛ وَالشِّفَاءُ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟
فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ».
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ إِذَا خَلَتْ مِنَ الشِّرْكِ وَمِنَ الشَّعْوَذَاتِ وَالْكَلَامِ غَيْرِ الْمَفْهُومِ، فَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَقَدْ يَنْفَعُ اللهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ مُسْلِمٍ.
وَلَكِنْ أَقُولُ، وَخَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَنْ: هَلْ قَلَّ الرَّاقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى حَتَّى يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْقِيَهُ؟!
لِذَا أَنَا لَا أَنْصَحُ بِالرُّقْيَةِ مِنْ كَافِرٍ لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَنَا مَا يُغْنِينَا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى وَمِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ الَّذِينَ يَرْقُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.