الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَهَذِهِ العُمْلَاتُ الرَّقَمِيَّةُ الالْكِتْرُونِيَّةُ هِيَ عُمْلَاتٌ افْتِرَاضِيَّةٌ وَهْمِيَّةٌ، لَا وُجُودَ مَادِّيًّا لَهَا، يَتَحَكَّمُ فِيهَا أَشْخَاصٌ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَقُّبُهُمْ.
هَذِهِ العُمْلَاتُ الرَّقَمِيَّةُ لَا تَعْتَمِدُ عَلَى المُؤَسَّسَاتِ الرَّسْمِيَّةِ، وَالجِهَاتِ المَالِيَّةِ الوَسِيطَةِ كَالمَصَارِفِ، وَلَا تَرْتَبِطُ بِأَيَّةِ مُؤَسَّسَةٍ مَالِيَّةٍ، وَلَا يُوجَدُ لَهَا أُصُولٌ، وَلَا أَرْصِدَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وَلَا تَحْمِيهَا أَيَّةُ ضَوَابِطَ أَو قَوَانِينَ مَالِيَّةٍ، وَلَا تَخْضَعُ لِسُلْطَةٍ رَقَابِيَّةٍ. هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: تَقَلُّبُ الأَسْعَارِ فِيهَا يَجْعَلُهَا شَدِيدَةَ الخُطُورَةِ عَلَى المُسْتَثْمِرِينَ.
ثَالِثًا: تَتَّسِمُ بِدَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الغُمُوضِ، وَالتَّقَلُّبَاتِ الكَثِيرَةِ بِحَيْثُ تَجْعَلُ التَّدَاوُلَ فَيهَا أَقْرَبَ إِلَى المُقَامَرَةِ مِنْهَا إِلَى الاسْتِثْمَارِ المَشْرُوعِ.
رَابِعًا: غِيَابُ الجِهَةِ الرَّقَابِيَّةِ وَالضَّمَانَاتِ المَالِيَّةِ مِنَ العُمْلَاتِ الرَّقَمِيَّةِ هَذَا يُؤَدِّي إِلَى زِيَادَةِ فُرَصِ الاحْتِيَالِ وَالنَّصْبِ، وَصُعُوبَةِ اسْتِرْدَادِ الأَمْوَالِ المَسْرُوقَةِ، وَانْعِدَامِ الضَّمَانَاتِ المَالِيَّةِ فِي حَالِ انْهِيَارِ السُّوقِ.
خَامِسًا: العُمْلَاتُ الرَّقَمِيَّةُ تَتَّسِمُ بِالغُمُوضِ، وَهَذَا مِنَ الغَرَرِ المَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُسْتَخْدَمَ فِي المُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ المُحَرَّمَةِ شَرْعًا.
سَادِسًا: العُمْلَاتُ الرَّقَمِيَّةُ سَبِيلٌ وَاضِحٌ لِغَسِيلِ الأَمْوَالِ، أَوْ تَمْوِيلِ الأَنْشِطَةِ الإِجْرَامِيَّةِ.
سَابِعًا: لَيْسَ لَهَا اسْتِخْدَامَاتٌ فَعْلِيَّةٌ فِي الاقْتِصَادِ، بَلْ تَعْتَمِدُ عَلَى المُضَارَبَاتِ دُونَ أَيِّ قِيمَةٍ اقْتِصَادِيَّةٍ.
ثَامِنًا: فُقَهَاءُ المُسْلِمِينَ ذَكَرُوا أَنَّ اعْتِمَادَ العُمْلَاتِ المَالِيَّةِ يُعْتَبَرُ في الشَّرِيعَةِ وَظِيفَةً خَاصَّةً بِالدَّوْلَةِ، فَالدَّوْلَةُ وَحْدَهَا يَحِقُّ لَهَا إِصْدَارُ النُّقُودِ وَفْقًا للقَوَانِينِ المُعْتَمَدَةِ لَدَيْهَا.
يَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لَا يَصْلُحُ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ إِلَّا فِي دَارِ الضَّرْبِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ النَّاسَ إِنْ رُخِّصَ لَهُمْ رَكِبُوا الْعَظَائِمَ. اهـ. كَذَا في الأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِأَبِي يَعْلَى الفَرَّاءِ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَيُكْرَهُ لِلرَّعِيَّةِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ كَانَتْ خَالِصَةً؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الْإِمَامِ. اهـ. كَذَا في رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ وَعُمْدَةِ المُفْتِينَ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَلَا يَجُوزُ التَّعَامُلُ بِهَذِهِ العُمْلَةِ، لِمَا فِيهَا مِنَ الغَرَرِ وَالغِشِّ وَالجَهَالَةِ في مَصْرِفِهَا، وَمِعْيَارِهَا، وَقِيمَتِهَا، وَجَهَالَةِ مَنْ يُرَوِّجُ لَهَا.
فَالتَّعَامُلُ فِيهَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ المُقَامَرَةِ المُحَرَّمَةِ بِالإِجْمَاعِ، كَمَا أَنَّ التَّعَامُلَ فِيهَا يُؤَدِّي إلى ضَيَاعِ حُقُوقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالبَاطِلِ، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.
وَالعَبْدُ سَوْفَ يُسْأَلُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَأَيْنَ أَنْفَقَهُ؟
وَلَو تَخَلَّى عَنْهَا مَنْ يُرَوِّجُ لَهَا ـ وَهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ ـ وَأَغْلَقُوا مَوَاقِعَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا سَيُفْقِدُهَا قِيمَتَهَا، وَيُؤَدِّي إلى تَلَفِهَا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى ضَيَاعِ حُقُوقِ النَّاسِ الذينَ يَتَعَامَلُونَ بِهَا.
وَإِضَافَةً إلى ذَلِكَ فَإِنَّ العُمْلَةَ الرَّقَمِيَّةَ لَا تَتَوَفَّرُ فِيهَا المَعَايِيرُ الشَّرْعِيَّةُ التي تَجْعَلُ مِنْهَا سِلْعَةً قَابِلَةً للمُقَايَضَةِ بِسِلَعٍ أُخْرَى، فَالتَّعَامُلُ بِهَا عَوَاقِبُهُ وَخِيمَةٌ، وَنَتَائِجُهُ غَيْرُ سَلِيمَةٍ. هَذَا أَوَّلًاً.
ثَانِيًا: فِي ظِلِّ التَّطَوُّرِ المَالِيِّ السَّرِيعِ يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِ التَّحَرِّي فِي أُمُورِ المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ، وَالحِرْصُ عَلَى اسْتِشَارَةِ أَهْلِ العِلْمِ الرَّاسِخِينَ فِيهِ قَبْلَ الانْخِرَاطِ فِي أَيِّ نَشَاطٍ اقْتِصَادِيٍّ قَدْ يَحْمِلُ شُبُهَاتٍ شَرْعِيَّةً.
فَالالْتِزَامُ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الأَسَاسُ لِتَحْقِيقِ البَرَكَةِ وَالفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَرَحِمَ اللهُ تَعَالَى سَيِّدِي ابْنَ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيَّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ: مِنْ عَلَامَاتِ النُّجْحِ فِي النِّهَايَاتِ الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ فِي البِدَايَاتِ. هذا، والله تعالى أعلم.