الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ جَاءَ في كِتَابِ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ لَابْنِ المُبَارَكِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّكُمُ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ.
وَفي رِوَايَةٍ في مُعْجَمِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ.
وَقَدْ كَانَ صَالِحُو هَذِهِ الأُمَّةِ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَكُونَ للرَّجُلِ خَبِيئَةٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ، مِنْ صَدَقَةٍ في السِّرِّ، أَو نَصِيحَةٍ لِمُقَصِّرٍ، أَو كَفَالَةِ يَتِيمٍ، أَو خَتْمِ قُرْآنٍ، أَو أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.
رَوَى ابْنُ القَيِّم فِي كِتَابِ رَوضَةِ المُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ المُشْتَاقِينَ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَتَفَقَّدُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعَدَ صَلَاةِ الفَجْرِ، فَكَانَ يَرَاهُ إِذَا صَلَّى الفَجْرَ يَخْرُجُ مِنَ المَسْجِدِ إِلى ضَاحِيَةٍ مِنْ ضَوَاحِي المَدِينَةِ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَتَسَاءَلُ مَالَهُ يَخْرُجُ؟
ثُمَّ تَبِعَهُ مَرَّةً مِنَ المَرَّاتِ، فَأَتَى فَإِذْ هُوَ قَدْ دَخَلَ خَيْمَةً مُنْزَوِيَةً، فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَ بَعدَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَإِذَا فِي الخَيْمَةِ عَجُوزٌ حَسِيرَةٌ كَسِيرَةٌ عَمْيَاءُ مَعَهَا طِفلَانِ لَهَا، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَمَةَ اللهِ، مَنْ أَنْتِ؟
قَالَتْ: أَنَا عَجُوزٌ كَسِيرَةٌ عَمْيَاءُ فِي هَذِهِ الخَيْمَةِ، مَاتَ أَبُونَا وَمَعِيَ بَنَاتٌ لَا عَائِلَ لَنَا إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَمَن هَذَا الشَّيخُ الذِي يَأْتِيَنَّكُمْ؟ ـ وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْهُ ـ
قَالَتْ: هَذَا شَيخٌ لَا أَعْرِفُهُ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ فَيَكْنِسُ بَيْتَنَا وَيَصْنَعُ لَنَا فُطُورَنَا وَيَحْلِبُ لَنَا شِيَاهَنَا.
فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ: أَتعَبْتَ الخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَهَذَا القَوْلُ يُنْسَبُ لِسَيِّدِنَا الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى، بَدَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ، فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا، وَجِلْدًا حَسَنًا.
فَقَالَ: أَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: الإِبِلُ، ـ أَوْ قَالَ: البَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الأَبْرَصَ، وَالأَقْرَعَ، قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ، وَقَالَ الآخَرُ: البَقَرُ ـ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ.
فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا، قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا.
قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: البَقَرُ، قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: يَرُدُّ اللهُ إِلَيَّ بَصَرِي، فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ.
قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ.
قَالَ: فَأَيُّ المَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ الغَنَمُ: فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ: تَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الحَسَنَ، وَالجِلْدَ الحَسَنَ، وَالمَالَ، بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي.
فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الحُقُوقَ كَثِيرَةٌ.
فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللهُ؟
فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ.
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا.
فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ اليَوْمَ إِلَّا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.
فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللهِ لَا أَجْهَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ للهِ.
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ». هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |