الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾. فَلَا خِيَارَ للمُؤْمِنِ إِذَا جَاءَهُ أَمْرٌ مِنَ اللهِ تعالى، وَمِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ وَالطَّاعَةُ. هَذَا أَوَّلًا.
ثَانِيًا: إِذَا أَسَاءَ إِنْسَانٌ لِآخَرَ وَآذَاهُ وَأَهَانَهُ، فَهُوَ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثَةٍ:
الخِيَارُ الأَوَّلُ وَهُوَ الأَمْثَلُ وَالأَعْلَى: أَنْ يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ لِيَنَالَ أَجْرَ الصَّابِرِينَ، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. قَالَ تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
فَإِذَا عَفَا وَصَفَحَ فَقَدِ اتَّصَفَ بِصِفَاتِ المُتَّقِينَ، قَالَ تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وَإِذَا عَفَا وَصَفَحَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ تعالى، قَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾. وَغَفَرَ اللهُ تعالى لَهُ، قَالَ تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
الخِيَارُ الثَّانِي: أَنْ يَمْتَنِعَ الإِنْسَانُ عَنِ العَفْوِ وَالصَّفْحِ، لِيَلْقَى المُسْلِمُ رَبَّهُ بِمَا اقْتَرَفَ مِنْ ذُنُوبٍ وَإِسَاءَاتٍ.
الخِيَارُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقْتَصَّ المُسَاءُ إِلَيْهِ مِنَ المُسِيءِ، وَيُقَابِلَ الإِسَاءَةَ بِالإِسَاءَةِ، قَالَ تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَمَنْ عَفَا وَصَفَحَ عَنِ المُسِيءِ لَا تَضِيعُ كَرَامَتُهُ، بَلْ يَزِيدُهُ اللهُ تعالى بِهَا عِزًّا، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ».
قَالَ: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا».
فَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ هَذَا المَقَامَ، فَلَا مَانِعَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ المُسِيءِ بِمِثْلِ مَا أُسِيءَ إِلَيْهِ. هذا، والله تعالى أعلم.