الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أَمَّا سُؤَالُكَ عَنْ هَذِهِ الفَتْوَى هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا؟ فَإِنِّي أَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ، وَفِيمَا أَعْتَقِدُ وَأَدِينُ اللهَ عَلَى ذَلِكَ: هَذِهِ الفَتْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَهِيَ فَتْوَى بَاطِلَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ يَنْظُرَ في أَمْرِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ فِي أَمْرِ الوَلِيِّ وَالشُّهُودِ في عَقْدِ الزَّوَاجِ، هَلْ كَانُوا عُدُولًا أَمْ لَا؟ لِيَجْعَلَ فِسْقَهُمْ ذَرِيعَةً إلى عَدَمِ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالثَّلَاثِ.
لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَحَلَّ الزَّوْجُ وِطْءَ زَوْجَتِهِ في النِّكَاحِ الفَاسِدِ فَقَدْ عَمِلَ مِنْ جَانِبِهِ هُوَ عَلَى صِحَّةِ العَقْدِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى فَسَادِهِ، لِأَنَّنَا لَوْ أَخَذْنَا بِذَلِكَ يَكُونُ العَقْدُ صَحِيحًا إِذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ في صِحَّتِهِ، وَفَاسِدًا إِذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ في فَسَادِهِ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَضْلًا عَنْ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ حِلَّ الشَّيْءِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَافَقَ غَرَضَهُ أَوْ خَالَفَهُ، وَمَنِ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ في الحَالَيْنِ كَذَلِكَ.
وَهَؤُلَاءِ المُطَلِّقُونَ لَا يُفَكِّرُونَ في فَسَادِ النِّكَاحِ بِفِسْقِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الوَلِيِّ أَوِ الشُّهُودِ إِلَّا عِنْدَ الطَّلَاقِ بِالثَّلَاثِ، وَلَا يُفَكِّرُونَ في فَسَادِ نِكَاحِهِمْ عِنْدَ الاسْتِمْتَاعِ وَالتَّوَارُثِ، فَفِي وَقْتٍ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُفْسِدُهُ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ يُقَلِّدُونَ مَنْ يُصَحِّحُهُ بِحَسَبِ الغَرَضِ وَالهَوَى، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ.
وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ العُلَمَاءُ لَا يُفَكِّرُونَ بِأَنْ يُبَيِّنُوا للنَّاسِ فَسَادَ العَقْدِ بِسَبَبِ فِسْقِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الشُّهُودِ أَوِ الوَلِيِّ عِنْدَ بِدَايَةِ العَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَا يُفَكِّرُونَ بِأَنْ يَنْصَحُوا العَامَّةَ في تَصْحِيحِ عُقُودِهِمْ وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقُوا، مَا دَامُوا يَعْتَقِدُونَ فَسَادَ العَقْدِ، أَلَيْسَ هَذَا مِنَ الغِشِّ لِلْعَامَّةِ إِذَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فَسَادَ العَقْدِ بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ؟
وَأَمْرٌ آخَرُ: أَكْثَرُ عُقُودِ الزَّوَاجِ يَحْضُرُهَا جَمْعٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، يَسْمَعُونَ صِيغَةَ عَقْدِ الزَّوَاجِ بَيْنَ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ، فَهَلِ الجَمِيعُ فُسَّاقٌ، أَلَا يُوجَدُ فِيهِمُ اثْنَانِ عُدُولٌ؟ وَالفَاسِقُ إِذَا أُمِرَ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ أَلَا يُصْبِحُ عَدْلًا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ؟ وَالغَالِبُ في عُقُودِ النِّكَاحِ أَنَّهَا بَعْدَ خِطْبَةِ النِّكَاحِ يَسْتَغْفِرُ الخَطِيبُ اللهَ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالاسْتِغْفَارِ، فَمَنِ الذي أَعْلَمَنَا بِأَنَّ هَذَا العَقْدَ الذي نَعْتَبِرُهُ فَاسِدًا بِسَبَبِ فِسْقِ الزَّوْجَيْنِ أَوِ الوَلِيِّ أَوِ الشُّهُودِ بِأَنَّهُمْ مَا اسْتَغْفَروا اللهَ تعالى قَبْلَ عَقْدِ الزَّوَاجِ بَعْدَ خِطْبَةِ النِّكَاحِ؟ وَالعَدَالَةُ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الفُقَهَاءُ في عَقْدِ الزَّوَاجِ هِيَ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ لَنَا الظَّاهِرُ وَاللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرُ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّنَا أَنْ نَسْأَلَ مَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَدْلًا هَلْ أَنْتَ تَفْعَلُ مَعْصِيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ لِنَحْكُمَ بِفِسْقِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَصِلَ إلى الحُكْمِ بِأَنَّ العَقْدَ الذي شَهِدَهُ كَانَ فَاسِدًا.(إِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقُ).وَمَنْ مِنَّا يَنْجُو مِنَ المُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
مَنْ مِنَّا يَنْجُو مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّنَابُزِ بِالأَلْقَابِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي؟ وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].
وَهَلْ هُنَاكَ عَقْدٌ مِنْ عُقُودِ الزَّوَاجِ لَا يَشْهَدُهُ إِلَّا فَاسِقَانِ اشْتُهِرَا بِالفِسْقِ؟ قَلَّمَا أَنْ يَكُونَ عَقْدُ زَوَاجٍ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَالِبُ عِلْمٍ وَرَجُلٌ صَالِحٌ.
وَلِمَاذَا نَسْأَلُ عَنْ صِحَّةِ العَقْدِ عِنْدَ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا، وَلَا نَسْأَلُ عَنْهُ عِنْدَ تَوْزِيعِ التَّرِكَةِ أَوْ عِنْدَ نُشُوزِ المَرْأَةِ؟ لِأَنَّهُ في النِّكَاحِ الفَاسِدِ لَا تَجِبُ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى المَرْأَةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الطَّاعَةُ لَهُ، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا.
هَلْ إِذَا رُفِعَتْ قَضِيَّةُ تَوَارُثِ زَوْجَيْنِ لِمَنْ يُفْتِي في فَسَادِ العَقْدِ يَسْأَلُ عَنْ صِحَّةِ هَذَا العَقْدِ؟ وَمَا هِيَ المَصْلَحَةُ في أَنْ أَجْعَلَ الحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ سَنَوَاتٍ، وَرُبَّمَا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ قَدْ رُزِقُوا بِأَوْلَادٍ، أَجْعَلَ عَقْدَهُمْ فَاسِدًا سَنَوَاتٍ عِدَّةٍ، لِأُصَحِّحَ لَهُمُ العَقْدَ الآنَ؟ لِنَتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ في فَتْوَانَا، وَلْنَتَحَرَّ الأَصْوَبَ، وَالحِيطَةُ في النِّكَاحِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِ الرُّخَصِ.
أَمَّا سُؤَالُكَ: هَلْ تَحِلُّ هَذِهِ المَرْأَةُ أَمْ لَا؟ فَإِنِّي أَقُولُ لَكَ وَاللهُ تعالى أَعْلَمُ: لَا تَحِلُّ لَكَ هَذِهِ الزَّوْجَةُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، لِأَنَّ الذي أَفْتَاكَ في المَرَّةِ الأُولَى جَعَلَ هَذَا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَاحِدًا، حَيْثُ اعْتَبَرَ المَرَّةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ تَأْكِيدًا عَلَى الطَّلْقَةِ الأُولَى، فَهَذِهِ تُعْتَبَرُ طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقْتَهَا ثَانِيَةً، ثُمَّ طَلَّقْتَهَا ثَالِثَةً، وَاللهُ تعالى يَقُولُ: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ أَيْ في المَرَّةِ الثَّالِثَةِ ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
زَوْجَتُكَ حَرُمَتْ عَلَيْكَ، وَبَانَتْ مِنْكَ بَيْنُونَةً كُبْرَى، وَوَجَبَ عَلَيْكَ أَنْ تَدْفَعَ لَهَا مَهْرَهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا، وَنَفَقَةَ العِدَّةِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |