الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
أما بعد: فَلَا أَدْرِي هَلْ سُؤَالُكُمْ عَنْ حُكْمِ سَتْرِ الوَجْهِ أَمْ عَنْ لِبَاسِ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ؟ وَكَلَامُ العَلَّامَةِ الدكتور يُوسُف القَرْضَاوِيِّ حَفِظَهُ اللهُ تعالى وَسَائِرَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ، أَنَا مُؤَيِّدٌ لِقَوْلِهِ حَفِظَهُ اللهُ تعالى ـ وَإِنْ لَمْ أَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ ـ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِلِبَاسِ المَرْأَةِ إِلَّا في مَسْأَلَةِ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ، وَخَاصَّةً في عَصْرٍ مِثْلِ هَذَا العَصْرِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَمَّا الغُلُوُّ في حُجُبِ النِّسَاءِ عَامَّةً الَّذِي عُرِفَ في بَعْضِ البِيئَاتِ وَالعُصُورِ الإِسْلَامِيَّةِ، فَهُوَ مِنَ التَّقَالِيدِ الَّتِي اسْتَحْدَثَهَا النَّاسُ احْتِيَاطًا مِنْهُمْ، وَسَدًّا للذَّرِيعَةِ في رَأْيِهِمْ، وَلَيْسَ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الإِسْلَامُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الغُلُوِّ في الحِجَابِ، بَلْ هُوَ لِرَجَحَانِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُمْ في وُجُوبِ السَّتْرِ، وَكَمَا تَفَضَّلَ سَمَاحَتُهُ احْتِيَاطًا، وَسَدًّا للذَّرِيعَةِ، مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَقَدْ أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ النِّسَاءِ في المَسَاجِدِ مَكْشُوفَاتِ الوُجُوهِ وَالكَفَّيْنِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ صُفُوفُهُنَّ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَعَلَى جَوَازِ حُضُورِهِنَّ مَجَالِسَ العِلْمِ.
أَقُولُ: لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، لِأَنَّ صَلَاةَ المَرْأَةِ في المَسْجِدِ خَلْفَ الرِّجَالِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ قَطْعًا، وَحُضُورُهَا مَجَالِسَ العِلْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَشُهُودُهَا الغَزَوَاتِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ.
وَإِحْرَامُ المَرْأَةِ في الحَجِّ وَالعُمْرَةِ وُجُوبُ كَشْفِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ إِحْرَامِهَا كَانَتْ سَاتِرَةً لِوَجْهِهَا، وَإِلَّا كَانَ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَأُمُّنَا السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ.
وَمَنِ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: إِحْرَامُ المَرْأَةِ في الحَجِّ وَالعُمْرَةِ سَتْرُ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ؟ فَنَحْنُ مَعَ ابْنِ عَقِيلٍ الحَنْبَلِيِّ في فَتْوَاهُ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى مَا عَدَا حَالَةِ الإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حَالَةِ الإِحْرَامِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ كَشْفُ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ.
وَإِلَيْكَ يَا أَخِي الكَرِيمُ مَا كَتَبْتُهُ في مَسْأَلَةِ الوَجْهِ سَائِلًا المَوْلَى السَّدَادَ لَنَا جَمِيعًا.
أَوَّلًا: الإِسْلَامُ حَرِيصٌ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى طَهَارَةِ المُجْتَمَعِ مِنْ أَدْرَانِ الفَاحِشَةِ وَالتَّرَدِّي في ثَوْرَةِ الفَسَادِ وَالتَّحَلُّلِ الخُلُقِيِّ.
الإِسْلَامُ يُرِيدُ فِتْيَانًا صَالِحِينَ وَنِسَاءً صَالِحَاتٍ، وَلَا يُرِيدُ فِتْيَانًا فَاسِقِينَ وَنِسَاءً طُغَاةً.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ؟».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟
قَالَ: «وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ سَيَكُونُ، كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا؟» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
الإِسْلَامُ أَمَرَ الرِّجَالَ بِغَضِّ البَصَرِ وَحِفْظِ الفَرْجِ، وَأَمَرَ النِّسَاءَ كَذَلِكَ، وَزَادَ عَلَيْهِنَّ بِعَدَمِ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِغَيْرِ المَحَارِمِ حِفَاظًا عَلَيْهِنَّ مِنَ النَّظَرَاتِ الخَائِنَةِ الجَارِحَةِ، وَقَطْعًا لِمَطَامِعِ الفُجَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ.
الإِسْلَامُ أَغْلَقَ نَوَافِذَ الفِتَنِ كُلَّهَا، وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ الفَوَاحِشِ كُلَّهَا، حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا مِنْ فِسْقِ الفَاسِقِينَ وَفُجُورِ الفَاجِرِينَ، وَمَا أَكْثَرَ الفُسَّاقَ وَالفُجَّارَ في عَصْرِنَا، وَمَا أَكْثَرَ الدَّعْوَةَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ وَمَوَاقِعِ الإنترنت الإِبَاحِيَّةِ فَضْلًا عَنِ المَجَلَّاتِ وَالصُّحُفِ الفَاجِرَةِ.
الإِسْلَامُ ـ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا ـ حَرَّمَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَـضْرِبَ الأَرْضَ بِرِجْلِهَا لِيَعْلَمَ الرِّجَالُ مَا تُخْفِي مِنْ زِينَتِهَا، قَالَ تعالى: ﴿وَلَا يَـضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾.
الإِسْلَامُ ـ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا ـ حَرَّمَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَتَبَرَّجَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، فَقَالَ تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾.
الإِسْلَامُ ـ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا ـ حَرَّمَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَتَعَطَّرَ وَتَخْرُجَ إِلَى الشَّارِعِ لِيَجِدَ النَّاسُ رِيحَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
الإِسْلَامُ ـ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا ـ حَرَّمَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ كَاسِيَةً عَارِيَةً، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ.
الإِسْلَامُ ـ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَعْرَاضِنَا ـ أَوْجَبَ عَلَى المَرْأَةِ أَنْ تُغَطِّيَ قَدَمَهَا، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟
قَالَ: «يُرْخِينَ شِبْرًا».
فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ.
قَالَ: «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ».
وَلَا أَدْرِي أَيْنَ تَكْمُنُ الفِتْنَةُ فِي الوَجْهِ أَمْ في القَدَمِ؟
اسْمَعْ يَا أَخِي، وَاسْمَعِي يَا أُخْتَاهُ بَعْضَ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الوَجْهِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المَرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ».
وَمِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الوَجْهِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في فَتْحِ البَارِي: أَيْ: غَطَّيْنَ وُجُوهَهُنَّ.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في قِصَّةِ حَدِيثِ الإِفْكِ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ.
وَرَوَى الحَاكِمُ عَنِ السَّيِّدَةِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: كُنَّا نُغَطِّيَ وُجُوهَنَا مِنَ الرِّجَالِ، وَكُنَّا نَتَمَشَّطُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ.
وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ سَيِّدِنَا أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ قَالَ الصَّحَابَةُ: لَا نَدْرِي أَتَزَوَّجَهَا، أَمِ اتَّخَذَهَا أُمَّ وَلَدٍ؟ قَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ حَجَبَهَا، فَقَعَدَتْ عَلَى عَجُزِ الْبَعِيرِ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ خَرَجَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الأَكْسِيَةِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَرَ اللهُ تعالى النِّسَاءَ نِسَاءَ المُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ في حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالجَلَابِيبِ وَيُبْدِينَ عَيْنًا وَاحِدَةً.
وَرَحْمَةُ اللهِ تعالى وَرِضْوَانَهُ عَلَى تِلْكَ المَرْأَةِ المُؤْمِنَةِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَرَبَّتْ في أَزْكَى القُرُونِ وَأَطْهَرِهَا عِنْدَمَا اسْتَشْهَدَ وَلَدُهَا في إِحْدَى الغَزَوَاتِ مَعَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُنْتَقِبَةٌ، تَسْأَلُ عَنِ ابْنِهَا، وَهُوَ مَقْتُولٌ، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: جِئْتِ تَسْأَلِينَ عَنِ ابْنِكِ وَأَنْتِ مُنْتَقِبَةٌ؟
فَقَالَتْ: إِنْ أُرْزَأَ ابْنِي فَلَنْ أُرْزَأَ حَيَائِي. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَأَقُولُ لِسَادَتِي العُلَمَاءِ حَفِظَهُمُ اللهُ تعالى:
سَادَتِي: اخْتِلَافُكُمْ في اجْتِهَادِكُمْ في مَسَائِلِ الفُرُوعِ أُرَاهُ مِنَ الابْتِلَاءِ للسَّادَةِ العُلَمَاءِ، أَرَى أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى الوَاقِعِ وَيَأْخُذُوا مِنَ الأَدِلَّةِ مَا فِيهِ صَلَاحُ المُجْتَمَعِ وَطَهَارَتُهُ، يَأْخُذُوا مِنَ الأَدِلَّةِ مَا يُبْعِدُونَ بِهِ المُجْتَمَعَ عَنْ مَوَاطِنِ الفِتَنِ.
نَعَمْ تَدَرَّجُوا في الأَحْكَامِ مَعَ النِّسَاءِ الكَاسِيَاتِ العَارِيَاتِ المُتَبَرِّجَاتِ تَبَرُّجًا أَشَدَّ مِنْ تَبَرُّجِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، ادْعُوهُنَّ إِلَى التَّسَتُّرِ وَالاحْتِشَامِ وَارْتِدَاءِ الحِجَابِ الَّذِي أَمَرَهُنَّ اللهُ بِهِ، وَقُولُوا لَهُنَّ: أَمْرُ الوَجْهِ وَالكَفَّيْنِ فِيهِمَا سَعَةٌ، حَتَّى يَذُقْنَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِالحِجَابِ، وَمَنْ ذَاقَتْ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ بِحِجَابِهَا سَوْفَ تَسْتُرُ وَجْهَهَا في هَذَا العَصْرِ العَصِيبِ الَّذِي أَضْرِمَتْ فِيهِ نِيرَانُ الشَّهَوَاتِ.
دَعُوا سَادَتِي السَّيِّدَاتِ الطَّاهِرَاتِ اللَّوَاتِي سَتَرْنَ وُجُوهَهُنَّ وَلَا تَقُولُوا لَهُنَّ: لَا يَجِبُ سَتْرُ الوَجْهِ بِحُجَّةِ أَنَّ الوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُولُوا لَهُنَّ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وَالأَحْوَطُ لِدِينِكُنَّ أَنْ تَسْتُرْنَ الوَجْهَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ. فَالأَحْوَطُ أَنْ تَسْتُرْنَ وُجُوهَكُنَّ وَخَاصَّةً في هَذَا المُجْتَمَعِ.
سَادَتِي: أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الحَدِيثَ عَنْ كَشْفِ الوَجْهِ صَارَ مُرَكَّزًا عَلَيْهِ وَخَاصَّةً في القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ؟ عَدُوُّنَا أَرَادَ مِنَ البَقِيَّةِ البَاقِيَةِ مِنَ الصَّالِحَاتِ أَنْ يَكْشِفْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ.
سَادَتِي: رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾. لِتَكُنِ الدَّعْوَةُ قَائِمَةً صَبَاحًا وَمَسَاءً في إِعَانَةِ هَؤُلَاءِ الشَّبَابِ عَلَى غَضِّ البَصَرِ، وَخَاصَّةً أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ سَبِيلًا إِلَى الزَّوَاجِ، أُغْلِقَتْ أَمَامَهُمْ سُبُلُ الزَّوَاجِ، وُضِعَتِ العَرَاقِيلُ في طَرِيقِهِمْ، لَا يَجِدُونَ رَحْمَةً مِنْ مُجْتَمَعِهِمْ، الآبَاءُ لَا يُزَوِّجُونَ الأَبْنَاءَ إِلَّا بَعْدَ مَرَاحِلَ عِدَّةٍ ـ إِنْهَاءِ الدِّرَاسَةِ، إِنْهَاءِ خِدْمَةِ العَلَمِ، تَأْمِينِ البَيْتِ وَالمَكْتَبِ وَالسَّيَّارَةِ وَرَأْسِ المَالِ ـ وَنِيرَانُ الشَّهَوَاتِ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
فَهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ تُعْطَى الفَتْوَى في جَوَازِ كَشْفِ الوَجْهِ في هَذَا المُجْتَمَعِ الَّذِي لَا تُؤْمَنُ فِيهِ الفِتْنَةُ؟
وَكُلُّنَا يَعْلَمُ أَنَّ المَجَامِعَ الفِقْهِيَّةَ الَّتِي عُقِدَتْ صَدَرَتْ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الوَجْهِ إِذَا لَمْ تَكُنِ الفِتْنَةُ مَأْمُونَةً.
وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ:
كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ الـنَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
وَالمَرْءُ مَـا دَامَ ذَا عَـيْــنٍ يُقَـلِّبُهَا *** في أَعْـيُنِ الغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَطَرٍ
يَـسُـرُّ مُـقْلَتَهُ مَـا ضَــرَّ مُــهْجَتَهُ *** لَا مَرْحَــــبًا بِسُرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ في قَلْبِ صَاحِبِها *** فَتْكَ السِّهَــــامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرٍ
ثَانِيًا: أَمَّا الأَدِلَّةُ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا مَنْ يَقُولُ إِنَّ الوَجْهَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ وَبِالتَّالِي لَا يَجِبُ سَتْرُهُ، فَنَقُولُ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ:
أَمَّا الحَدِيثُ الأَوَّلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّونَ بِهِ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ السَّيِّدَةَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «يَا أَسْمَاءُ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا» وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ.
وَهَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَةَ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا هِيَ الَّتِي قَالَتْ ـ كَمَا رَوَاهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ـ: كُنَّا نُغَطِّيَ وُجُوهَنَا مِنَ الرِّجَالِ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقَالَ: «تَصَدَّقْنَ، فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سِطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، فَقَالَتْ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ».
قَالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ، يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ مِنْ أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ.
فَلَيْسَ في هَذَا الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَآهَا وَسَكَتَ عَنْهَا حَتَّى رَآهَا جَابِرٌ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ جَابِرًا رَأَى وَجْهَ تِلْكَ المَرْأَةِ، فَلَعَلَّ جِلْبَابَهَا انْحَسَرَ عَنْ وَجْهِهَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، فَرَآهُ جَابِرٌ وَأَخْبَرَ عَنْهُ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَآهَا كَمَا رَآهَا جَابِرٌ وَأَقَرَّهَا فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَابِرًا انْفَرَدَ بِرُؤْيَتِهَا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ رَوَوْا خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَوْعِظَتَهُ لِلنِّسَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَا ذَكَرَهُ جَابِرٌ مِنْ صِفَةِ خَدَّيِ المَرْأَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةً جَاءَتْ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ. فَالجَوَابُ عَنْهُ:
أَوَّلًا: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا حِينَ كَانَ أَخُوهُ يَنْظُرُ إِلَى الخَثْعَمِيَّةِ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ الضَّعَفَةِ بِلَيْلٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَرِوَايَتُهُ لِلْقِصَّةِ إِنَّمَا كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ أَخِيهِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ.
ثَانِيًا: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُصَرِّحْ في حَدِيثِهِ أَنَّ المَرْأَةَ كَانَتْ سَافِرَةَ الوَجْهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَآهَا وَأَقَرَّهَا، وَغَايَةُ مَا فِيهِ: أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ المَرْأَةَ حَسْنَاءُ وَضِيئَةٌ، وَإِنْ كَانَ الفَضْلُ قَدْ رَأَى وَجْهَهَا فَرُؤْيَتُهُ لَهُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَدِيمَةً لِكَشْفِهِ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَآهَا وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَثِيرًا مَا يَنْكَشِفُ وَجْهُ المُتَحَجِّبَةِ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنْهَا بِسَبَبِ انْشِغَالِهَا بِشَيْءٍ، أَوْ بِسَبَبِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، فَيَرَى وَجْهَهَا مَنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَهَا.
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ شَاهَدُوا قِصَّةَ الفَضْلِ وَالخَثْعَمِيَّةِ لَمْ يَذْكُرُوا حُسْنَ المَرْأَةِ وَوَضَاءَتَهَا، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهَا كَانَتْ مُسْفِرَةً عَنْ وَجْهِهَا، بَلْ غَايَةُ مَا فِي الحَدِيثِ أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً عَنْهُمْ.
ثَالِثًا: إِنَّ المَرْأَةَ كَانَتْ مُحْرِمَةً بِالحَجِّ، وَالمُحْرِمَةُ بِالحَجِّ لَا يَجُوزُ لَهَا سَتْرُ وَجْهِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ» وَمَحَلُّ الخِلَافِ فِي غَيْرِ الحَجِّ، فَالاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الكَشْفِ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كُنَّ نِسَاءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ، لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ.
فَلَيْسَ في الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ كَشْفِ الوَجْهِ، بَلْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ نِسَاءَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ كُنَّ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ وَيَسْتَتِرْنَ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ الأَجَانِبِ، حَتَّى إِنَّ مِنْ شِدَّةِ مُبَالَغَتِهِنَّ في التَّسَتُّرِ وَتَغْطِيَةِ الوُجُوهِ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا.
أَرْجِعُ فَأَقُولُ:
أَوَّلًا: أَيُّهُمَا أَوْلَى في هَذَا العَصْرِ في حَقِّ نِسَائِنَا؟ الكَشْفُ أَمِ السَّتْرُ؟ وَإِذَا اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في الأَدِلَّةِ، فَالوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ الأَحْوَطَ في دِينِهِ.
ثَانِيًا: أَلَيْسَ الأَحْوَطُ في دِينِ المَرْأَةِ أَنْ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا لِتُعِينَ الرِّجَالَ عَلَى غَضِّ البَصَرِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |