الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ».
وروى الشيخان عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي.
قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ».
قَالَتْ: أَصْبِرُ.
قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ؛ فَدَعَا لَهَا
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ، حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ».
وروى الإمام مسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ».
فمن خِلالِ هذهِ الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ تَبَيَّنَ بأَنَّ أَهلَ الابتِلاءَاتِ والشَّدَائِدِ والمِحَنِ إنْ كَانُوا من أَهلِ الإيمَانِ لا يَستَوُونَ عِندَ اللهِ تعالى في الحِسَابِ؛ ويَقُولُ الإمامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَنْفَكُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ سَاعَةً مِنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُور، وَفِيهِ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا، إِنْ قَلَّتْ مَشَقَّتُهَا، وَفِيهِ رَفْعُ الدَّرَجَاتِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَزِيَادَةُ الْحَسَنَاتِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. اهـ.
ويَقُولُ الإمامُ المناوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في فَيضِ القَدِيرِ: (فَمَا يَبرَحُ البَلاءُ بالعَبدِ) أي: الإنسانِ (حَتَّى يَترُكَهُ يَمشِي على الأرضِ وما عَلَيهِ من خَطِيئَةٍ) كِنَايَةً عن سَلامَتِهِ من الذُّنُوبِ وخَلاصِهِ مِنهَا، كَأَنَّهُ كَانَ مَحبُوسَاً فَأُطلِقَ وخُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَهُوَ يَمشِي وما عَلَيهِ بَأسٌ، ومن ظَنَّ أنَّ شِدَّةَ البَلاءِ هَوَانٌ بالعَبدِ، فَقَد ذَهَبَ لُبُّهُ وعَمِيَ قَلبُهُ، فَقَد ابتُلِيَ من الأَكَابِرِ ما لا يُحصَى. اهـ.
وبناء على ذلك:
فَأَهلُ الابتِلاءَاتِ الذينَ آمَنُوا وصَبَرُوا يَمشُونَ على وَجْهِ الأَرضِ بِدُونِ خَطِيئَةٍ بِإذنِ اللهِ تعالى، وبالتَّالِي لا يَستَوُونَ في الحِسَابِ مَعَ أَهلِ العَافِيَةِ، بل يَتَمنَّى أَهلُ العَافِيَةِ أن تَكُونَ أَجسَادُهُم قُطِّعَت بِمَقَارِيضَ لما يَرَونَ من مَكَانَةٍ لأَهلِ الابتِلاءَاتِ، روى الطَّبَرَانِيُّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِالشَّهِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُنْصَبُ لِلْحِسَابِ، وَيُؤْتَى بِالْمُتَصَدِّقِ فَيُنْصَبُ لِلْحِسَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلاءِ وَلا يُنْصَبُ لَهُمْ مِيزَانٌ، وَلا يُنْشَرُ لَهُمْ دِيوَانٌ، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمُ الأَجْرُ صَبَّاً، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْعَافِيَةِ لَيَتَمَنَّوْنَ فِي الْمَوْقِفِ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِ اللهِ لَهُمْ». هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |