الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالأصلُ في الأمور الإباحةُ، ما لم يرد نصٌّ بالتحريم، لو رأينا إنساناً يتحرَّك حركة طبيعية وهو يذكر الله تعالى فما هو الحرج في ذلك؟ لو رأينا إنساناً يسبح وهو يذكر الله تعالى فأين الحرج في ذلك؟ لو رأينا إنساناً يجري وهو يذكر الله تعالى فأين الحرج؟
ولو تمايل الذاكر أثناء ذكره لله تعالى بدون تكلُّف فأين الحرج؟ وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كانت الحبشة يزفِنُونَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرقصون ويقولون: محمد عبد صالح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يقولون؟» قالوا: يقولون: محمد عبد صالح. فلما رآهم صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم، وأقرَّهم على ذلك، والمعلوم أن الأحكام الشرعية تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، فلما أقرَّهم على فعلهم ولم ينكر عليهم تبيَّنَ أن هذا جائز.
وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم! لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم كأمثال رُكَبِ المَعْز، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبلَّ ثيابهم. أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية، وأورده في كنز العمال وعزاه إلى الدينوري والعسكري في المواعظ.
وبناء على ذلك:
فلا حرج في الحركة أثناء الذكر إذا صفت النية لله عز وجل، وكان الذاكر مراقباً لله عز وجل، وكان الأمر من غير تكلُّف، ولا تشبُّه بالنساء.
وهناك بعض الفقهاء ممن حرَّم الحركة أثناء الذكر لله تعالى، ولم أقف على دليل تحريمهم، وهناك أيضاً كثير من الفقهاء قالوا بجوازها، ومنهم العارف بالله سيدي أبو مدين رحمه الله، حيث قال:
وقل للذي ينهى عن الوجد أهله *** إذا لم تذق معنى شراب الهوى دعنا إذا اهتزت رواالأح شوقاً إلى اللقا *** نعمْ ترقص الأشباح يا جاهلَ المعنى أما تنظر الطير المُقَفَّص يا فتى *** إذا ذكر الأوطان حنَّ إلى المغنى يفرِّجُ بالتغريد ما بفؤاده *** فتضطرب الأعضاء في الحسِّ والمعنى كذلك أرواح المحبين يا فتى *** تهزْهزُها الأشواق للعالم الأسنى أنُلزمُها بالصبر وهي مشوقة *** وهل يستطيع الصبرَ من شاهد المعنى فيا حادي العشاق قم واشدُ قائماً *** وزَمزمْ لنا باسم الحبيب وروِّحْنا
وعلى كلِّ حال فالمسألة اختلف الفقهاء فيها، وما ينبغي أن نجعل منها قضية يكثر الجدل والمراء فيها، لأن كثرة الجدل والمراء ليست من شأن المؤمن المُخْلِص، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِرَاءَ وإن كان مُحِقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خُلُقَهُ» رواه أبو داود. هذا، والله تعالى أعلم.