الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى اسْتِحْبَابِ التَّعْزِيَةِ لِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا روى الإمام مسلم عَنْ حَفْصَةَ، أَوْ عَنْ عَائِشَةَ، أَوْ عَنْ كِلْتَيْهِمَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ـ أَوْ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ـ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا».
وَكَرِهُوا التَّعْزِيَةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِلَّا لِغَائِبٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ المَقْصُودَ مِنَ التَّعْزِيَةِ سُكُونُ قَلْبِ أَهْلِ المُتَوَفَّى، وَالغَالِبُ سُكُونُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَا يُجَدَّدُ الحُزْنُ بِالتَّعْزِيَةِ.
ثانياً: يُسَنُّ صُنْعُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ المَيْتِ مِنْ قِبَلِ الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ، لِمَا روى الحاكم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نُعِيَ جَعْفَرٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامَاً، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ».
وَأَمَّا أَنْ يَصْنَعَ أَهْلُ المَيْتِ طَعَامَاً، وَيَجْمَعُوا النَّاسَ عَلَيْهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالاتِّفَاقِ إِذَا كَانَ مِنْ مَالِهِمْ لَا مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ مُوَرِّثِهِمْ وَفِي الوَرَثَةِ قُصَّرٌ صَارَ الطَّعَامُ حَرَامَاً، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارَاً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَاً﴾.
وروى الإمام أحمد عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البَجَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ المَيِّتِ وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَإِنَّ الاجْتِمَاعَ في الأَرْبَعِينِيَّةِ للمُتَوَفَّى، أَو السَّنَوِيَّةِ، وَجَعْلَ الطَّعَامِ لَيْسَ مِنْ هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَجْدِيدِ الأَحْزَانِ وَإِثَارَةِ الأَشْجَانِ.
يَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَأَكْرَهُ المَأْتَمَ، وَهِيَ الجَمَاعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُكَاءٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَدِّدُ الحُزْنَ، وَيُكَلِّفُ المُؤْنَةَ.
وَجَاءَ في حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَزَّى مَرَّةً أَنْ يُعَزِّيَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَلَكِنْ لَا حَرَجَ مِنْ كَثْرَةِ الصَّدَقَةِ عَنِ المَيْتِ في أَيِّ وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، بِدُونِ تَحْدِيدِ زَمَنٍ مِنَ الأَزْمِنَةِ، لِأَنَّ الخَيْرَ كُلَّ الخَيْرِ في الاتِّبَاعِ لِسَلَفِ الأُمَّةِ، وَالشَّرَّ كُلَّ الشَّرِّ في الابْتِدَاعِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |