الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَجِبُ عَلَى أَعْضَاءِ هَذِهِ الجَمْعِيَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا الأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالزَّكَاةِ، حَتَّى لَا يَقَعُوا تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾. وَتَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.
أَوَّلًا: لَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الزَّكَاةَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ، وَبَيَّنَ مَصَارِفَهَا في القُرْآنِ العَظِيمِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الحَارِثِ الصُّدَائِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا، قَالَ: فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ».
ثَانِيًا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللهِ﴾. لَا يَعُمُّ سُبُلَ الخَيْرِ، وَلَو كَانَ يَعُمُّ جَمِيعَ سُبُلِ الخَيْرِ لَمَا كَانَ صِنْفًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَصْنَافٍ.
يَقُولُ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: سُبُلُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا في أَنَّ المُرَادَ بِسَبِيلِ اللهِ هُنَا الغَزْوُ.
ثَالِثًا: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾. قَالَ الفُقَهَاءُ: لِلْإِمَامِ حَقُّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنَ المَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَالخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ الأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، إِلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنِ الأَمْوَالِ البَاطِنَةِ إِلَى مُلَّاكِهَا.
وَذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِمَامِ العَادِلِ أَنْ يُرْسِلَ السُّعَاةَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُولِي العُمَّالَ ذَلِكَ، وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الأَمْوَالِ، وَاشْتَرَطَ الفُقَهَاءُ فِي السَّاعِي شُرُوطًا، وَهِيَ: الإِسْلَامُ، وَالعَدَالَةُ، وَالفِقْهُ فِي أُمُورِ الزَّكَاةِ، وَالقُدْرَةُ عَلَى القِيَامِ بِالعَمَلِ وَضَبْطِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَامٌ، أَوْ كَانَ الإِمَامُ لَا يُرْسِلُ السُّعَاةَ لِجَبيِ الزَّكَاةِ، فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الأَمْوَالِ إِخْرَاجُهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَتَفْرِيقُهَا عَلَى المُسْتَحِقِّينَ، لِأَنَّهمْ أَهْلُ الحَقِّ فِيهَا، وَالإِمَامُ نَائِبٌ عَنْهُمْ.
كَمَا جَاءَ فِي المَوْسُوعَةِ الفِقْهِيَّةِ الكُوَيْتِيَّةِ، مُصْطَلَحُ (زَكَاة) ف /141ـ 144/.
وَيَقُولُ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي المَجْمُوعِ: إنْ كَانَ مُفَرِّقُ الزَّكَاةِ هُوَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَامِلِ، وَوَجَبَ صَرْفُهَا إلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ الْبَاقِينَ. اهـ.
فَالجَمْعِيَّاتُ الخَيْرِيَّةُ لَيْسَتْ مُكَلَّفَةً مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الأَمْرِ بِجَمْعِ الزَّكَاةِ مِنَ الأَغْنِيَاءِ وَرَدِّهَا عَلَى الفُقَرَاءِ، بَلْ هَؤُلَاءِ العَامِلُونَ مَأْذُونٌ لَهُمْ فِي مُسَاعَدَةِ الفُقَرَاءِ، وَأَنْ يَكُونُوا وُكَلَاءَ عَنِ الأَغْنِيَاءِ فِي إِيصَالِ الزَّكَاةِ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا.
رَابِعًا: لَا يَجُوزُ لِلْجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ شِرَاءُ أَرْضٍ لِبِنَاءِ مَدْرَسَةٍ أَوْ مَعَاهِدَ أَوْ مَشَافِيَ أَوْ جَمْعِيَّاتٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ شِرَاءُ أَدَوَاتٍ ثَابِتَةٍ لِهَذَا البِنَاءِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلُ العِلْمِ وَمِنْهُمْ أَصْحَابُ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ المَتْبُوعَةِ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ لِسَدِّ حَاجَةِ هَذِهِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلِيَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ التَّكَافُلُ الاجْتِمَاعِيُّ لَدَى المُسْلِمِينَ، وَيَعِيشَ الجَمِيعُ فِي كَرَامَةٍ وَعِزَّةٍ، وَصَرْفُهَا لِغَيْرِ هَذِهِ المَصَارِفِ كَبِنَاءِ المَشَافِي، وَالأَدَوَاتِ الطِّبِّيَّةِ، وَبِنَاءِ المَسَاجِدِ، وَالمَدَارِسِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ لَا تُحَقِّقُ هَذِهِ الغَايَةَ الشَّرْعِيَّةَ.
خَامِسًا: مَنْ دَفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ لِمِثْلِ هَذِهِ المُؤَسَّسَاتِ الخَيْرِيَّةِ، أَوْ لِبِنَاءِ المَسَاجِدِ أَو المَدَارِسِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ إِخْرَاجَهَا إِلَى أَصْنَافِهَا الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَة / 60 /. وَمَنْ دَفَعَهَا سَابِقًا بِنَاءً عَلَى فَتْوَى بَعْضِ العُلَماءِ نَرْجُو اللهَ تَعَالَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الأُولَى فِي حَقِّهِ إِعَادَتُهَا، حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِيَقِينٍ؛ أَمَّا مَنْ دَفَعَهَا بِدُونِ سُؤَالٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا.
سَادِسًا: هَذِهِ المُؤَسَّسَاتُ الخَيْرِيَّةُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُزَاحِمَ الأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ الَّتِي خَصَّهَا اللهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ، وَالَّذِينَ هُمْ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَيَكْفِي هَذِهِ المُؤَسَّسَاتِ الخَيْرِيَّةِ وَالمَسَاجِدَ وَالمَدَارِسَ الشَّرْعِيَّةَ أَمْوَالُ الصَّدَقَاتِ وَالأَوْقَافِ، وَالخَيْرُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ بَاقٍ إِلَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
وَالوَاجِبُ عَلَى طُلَّابِ العِلْمِ وَالعُلَماءِ أَنْ يُوَجِّهُوا الأَغْنِيَاءَ إِلَى الصَّدَقَاتِ، وَأَنَّهَا فِي الأَجْرِ لَا تَقِلُّ عَنِ الفَرْضِ، بَلْ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فَالصَّدَقَاتُ سَبَبٌ عَظِيمُ مِنْ أَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَالَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الصَّدَقَاتُ، وَأَنَا وَاثِقٌ بِأَنَّ الخَيْرَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ بَاقٍ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نُحَرِّكَ فِيهِمُ الوَازِعَ الإِيمَانِيَّ، وَنَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ مَنْ دَفَعَ 2.5% لِلفُقَرَاءِ فَلْيَدْفَعْ مِثْلَهَا لِلجِهَاتِ الخَيْرِيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَالَّتِي مِنْهَا المَسَاجِدُ وَالمَدَارِسُ الشَّرْعِيَّةُ، لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ تَعَالَى / 100.000 / مِئَةَ أَلْفِ لَيْرَةٍ مَثَلًا، فَدَفَعْتَ مِنْهَا أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِئَةٍ زَكَاةً، فَمَا الَّذِي يَضُرُّكَ لَو دَفَعْتَ مِثْلَهَا صَدَقَةً جَارِيَةً.
سَابِعًا: إِذَا شُيِّدَتِ المَدَارِسُ لِتَعْلِيمِ الفُقَرَاءِ وَلِكَفَالَةِ اليَتِيمِ حَصْرًا، مِنَ الصَّدَقَاتِ العَامَّةِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ غَيْرُ الفُقَرَاءِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَا تَجُوزُ الكَفَالَةُ لِلْأَيْتَامِ غَيْرِ الفُقَرَاءِ مِنَ المُسْلِمِينَ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَجَزَى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الجَمْعِيَّةَ الَّتِي أُسِّسَتْ لِتَعْلِيمِ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، وَلِكَفَالَةِ اليَتَامَى، وَمُسَاعَدَةِ الفُقَرَاءِ خَيْرَ الجَزَاءِ، بِشُرُوطٍ:
أَوَّلًا: لَا يَجُوزُ بِنَاءُ المَدْرَسَةِ وَمُسْتَلْزَمَاتِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ثَانِيًا: لَا يَجُوزُ أَخْذُ نِسْبَةٍ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ لِقَاءَ عَمَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَتُؤْخَذُ أُجْرَتُهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَةِ غَيْرِ الزَّكَاةِ إِنْ وُجِدَتْ، وَبِشَرْطِ عِلْمِ المُتَصَدِّقِينَ، وَأَنْ تَكُونَ فِي حُدُودِ العُرْفِ.
ثَالِثًا: كَيْفَ تُؤْخَذُ الأَقْسَاطُ مِنَ الطُّلَّابِ الفُقَرَاءِ لِقَاءَ تَعْلِيمِهِمْ إِذَا كَانَتِ المَدْرَسَةُ كُوِّنَتْ مِنْ أَجْلِهِمْ؟ وَجُمِعَتْ أَمْوَالُ الزَّكَاةِ لِصَالِحِهِمْ؟ لِذَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ أَقْسَاطٍ شَهْرِيَّةٍ أَوْ سَنَوِيَّةٍ مِنَ الطُّلَّابِ الفُقَرَاءِ.
رَابِعًا: إِذَا فَاضَ المَالُ الَّذِي جُمِعَ لِصَالِحِ الفُقَرَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ يُرَدُّ كَامِلًا لِلْفُقَرَاءِ.
خَامِسًا: أَيُّ تَوَارُثٍ يَكُونُ فِي المُمْتَلَكَاتِ بَيْنَ أَفْرَادِ الجَمْعِيَّةِ؟ هَلْ هُوَ مَالُهُمْ أَمْ مَالُ الفُقَرَاءِ؟
جَمِيعُ المُمْتَلَكَاتِ هِيَ حَقُّ الفُقَرَاءِ الَّذِينَ جُمِعَتِ الأَمْوَالُ لَهُمْ وَلِأَجْلِهِمْ. هذا، والله تعالى أعلم.