الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي هذه الآية الكريمة قدَّم ربنا عز وجل عداوة اليهود للمؤمنين على عداوة المشركين لهم، لأنَّهم أهل عناد وجحود، وهم قتلة الأنبياء عليهم السلام فعداوتهم أشد من عداوة المشركين، ولقد هموا بقتل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة وسمُّوه وسحروه.
أما بالنسبة للنصارى الذين كانوا على دين الحق، حيث كانوا يؤمنون بالتوحيد بأنَّه لا إله إلا الله ويؤمنون بأن سيدنا عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، فهؤلاء أقربُ الناس محبة ومودة للمؤمنين، لأنَّهم أتباع لسيدنا عيسى عليه السلام بحقٍّ وبدون تحريف، وفي قلوبهم الرقة والرأفة كما قال تعالى في حقهم: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.
وهذا الأمر كان جلياً وواضحاً في نصارى الحبشة، وكلمةُ النجاشي للمهاجرين كانت واضحة، بأن الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلف عما جاء به سيدنا عيسى عليه الإسلام من التوحيد، وذلك عندما سأل النجاشيُّ سيدَنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. رواه أحمد.
وقد وصف الله تعالى هؤلاء النصارى الذين كانوا على حقٍّ من زمن سيدنا عيسى عليه السلام حتى بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنَّ فيهم قسيسين وهم العلماء، ورهباناً وهم العبَّاد.
هؤلاء الذين كانوا على حق ـ ومنهم العلماء والعبَّاد، ولم يغيِّروا شيئاً ولم يحرِّفوا ما جاء به سيدنا عيسى عليه السلام ـ إذا سمعوا شيئاً من القرآن الذي أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ذرفت عيونهم الدمع الحار الغزير انفعالاً لآيات الله عز وجل، لما يعلمون من البشارة ببعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيلهم ـ كما قال تعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ـ فيسرعون لقبول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلنون إيمانهم بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يتطلَّعون إلى ظهوره.
فقوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين}. يعني إنشاءً جديداً للإيمان، حيث تابعوا مسيرة إيمانهم من سيدنا عيسى إلى سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام، ويطلبون من الله تعالى أن يكتبهم مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
وأكَّدوا إيمانهم بقولهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين}. فهم يؤكدون أنه لا مانع يمنعهم من اتباع الحق الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهم طامعون أن يدخلوا الجنة بمعية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الصالحة.
وهؤلاء الذين آمنوا من النصارى هم المشار إليهم بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُون * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِين * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِين}.
لذلك كان جزاء هؤلاء الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم من النصارى كما قال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِين}.
وأما الذين كفروا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى، وأنكروا وحدانية الله، وقالوا: عيسى ابن الله، بعد وصول دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فجزاؤهم كما قال تعالى في ختام هذه الآيات: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم}.
وبناء على ذلك:
فمن خلال تفسير الآيات يُفهم الجواب عن أسئلتكم كلها. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |