الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: الوصيةُ: هي تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعدَ الموتِ بطريقِ التبرُّعِ، سواءٌ كانَ ذلك في الأعيانِ أو في المنافِعِ.
والوصيَّةُ مشروعةٌ بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وبقوله تعالى: {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. فهذانِ النصَّانِ جَعَلا الميراثَ حقَّاً مُؤَخَّراً عن تنفيذِ الوصيَّةِ وأداءِ الدَّينِ، لكنَّ الدَّينَ مقدَّم على الوصيَّةِ، لما رواه الإمام أحمد عَنْ سيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: (إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. وَإِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ).
وأخرج الإمام البخاري عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضِي الله عَنْهُ، قال: (جَاءَنِي رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حَجَّة الْوَداعِ مِنْ وَجعٍ اشْتدَّ بِي، فَقُلْتُ: يا رسُول اللهِ إِنِّي قَدْ بلغَ بِي مِن الوجعِ مَا تَرى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلاَ يَرثُنِي إِلاَّ ابْنةٌ لِي، أَفأَتصَدَّق بثُلُثَي مالِي؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فالشَّطرُ يَا رسوُلَ اللهِ؟ فقالَ : لا، قُلْتُ: فالثُّلُثُ يا رسول اللهِ؟ قال: الثُّلثُ، والثُّلُثُ كثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذرَ وَرَثَتَكَ أغنِياءَ خَيْرٌ مِن أَنْ تذرهُمْ عالَةً يَتكفَّفُونَ النَّاس).
وأخرج الدارقطني عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ، زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ). فالوصيَّةُ باتِّفَاقِ الفقهاءِ مُستَحَبَّةٌ وليست بواجِبَةٍ.
ثانياً: الصَّدَقَةُ: هي تَمليكٌ في الحياةِ بغيرِ عِوَضٍ على وَجهِ القُربةِ إلى الله تعالى، والصَّدَقَةُ مَسنونةٌ بنصِّ الكتابِ بقولِهِ تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم}.
وأخرج الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ، أَطْعَمَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الرَّحِيقِ المَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الجَنَّةِ).
وبناء على ذلك:
فالصَّدَقَةُ في حالِ الحياةِ والصحَّةِ والقوةِ أفضلُ من الوصيَّةِ بعد الموتِ أو في حالِ الاحتضارِ أو المرضِ، لما رواه الإمام البخاري عن أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلانٍ). هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |