الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
طَالَمَا أَنَّ الأُخْتَ وَكَّلَتْ أَخَاهَا بِإِجْرَاءِ عَقْدِ زَوَاجِهَا عَلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، فَأَجْرَاهُ لِغَيْرِهِ عَنْ خَطَأٍ أَوْ قَصْدٍ فَيُعْتَبَرُ هَذَا العَقْدُ مَوْقُوفًا.
وَالعَقْدُ المَوْقُوفُ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ: فَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَالمَالِكِيَّةُ وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ العَقْدَ المَوْقُوفَ صِحِيحٌ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ الإِجَازَةُ، فَإِذَا لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ العَقْدُ.
وَحَقُّ الفَسْخِ يَثْبُتُ في بَيْعِ الفُضُولِيِّ لِكُلٍّ مِنَ الفُضُولِيِّ وَالعَاقِدِ الآخَرِ وَالمَالِكِ الحَقِيقِيِّ، فَأَيُّ هَذهِ الجِهَاتِ الثَّلَاثِ فَسَخَ البَيْعَ انْفَسَخَ، وَلَمْ تَلْحَقْهُ الإِجَازَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العُقُودِ المَوْقُوفَةِ إِلَّا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ فَسْخُهُ بَعْدَ انْعِقَادِهِ لِعَدَمِ رُجُوعِ أَحْكَامِهِ إِلَيْهِ، كَمَا جَاءَ فِي فَتْح القَدِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ العَقْدَ المَوْقُوفَ بَاطِلٌ، وَلَا يَصِحُّ بِالإِجَازَةِ، لِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا طَلَاقَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ، وَلَا بَيْعَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالحَنَابِلَةِ صَحَّ عَقْدُ الزَّوَاجِ الثَّانِي، لِأَنَّ العَقْدَ الأَوَّلَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِإِعْلَامِ الزَّوْجَةِ المُوَكِّلَةِ بِذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ السَّادَةِ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ فَعَلَى وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَنْ يُخْبِرَ أُخْتَهُ بِالعَقْدِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ لِوَكِيلِ الزَّوْجِ، فَإِنْ أَجَازَتْهُ صَحَّ العَقْدُ الأَوَّلُ وَبَطَلَ العَقْدُ الثَّانِي، وَإِنْ لَمْ تُجِزْهُ كَانَ العَقْدُ الأَوَّلُ بَاطِلًا، وَالعَقْدُ البَاطِلُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِذَا لَمْ يَعْقُبْهُ دُخُولٌ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَهُ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ إِجْرَاءِ العَقْدِ الثَّانِي، فَيَكُونُ الثَّانِي بَاطِلًا أَيْضًا بِسَبَبِ تَوَقُّفِ العَقْدِ الأَوَّلِ عِنْدَ انْعِقَادِهِ، وَلِهَذَا فَالوَاجِبُ ـ عَلَى هَذَيْنِ المَذْهَبَيْنِ ـ إِعَادَةُ العَقْدِ الثَّانِي بَعْدَ ظُهُورِ بُطْلَانِ العَقْدِ الأَوَّلِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً، لِعَدَمِ الدُّخُولِ بَعْدَ العَقْدِ الأَوَّلِ.
وَالأَوْلَى فِي نَظَرِي أَنْ يُخْبِرَ الأَخُ أُخْتَهُ بِالعَقْدِ الأَوَّلِ مِنْ أَجْلِ إِجَازَتِهِ أَوْ فَسْخِهِ، فَإِنْ أَجَازَتْهُ صَحَّ الأَوَّلُ وَبَطَلَ الثَّانِي، وَإِنْ رَفَضَتْهُ بَطَلَ العَقْدَانِ، ثُمَّ يُعْقَدُ لَهَا مِنْ جَدِيدٍ، وَذَلِكَ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الفُقَهَاءِ. هذا، والله تعالى أعلم.