الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقد قَالَ اللهُ تعالى في سُورَةِ الأَنْعَامِ: ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
في هذهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يُبَيِّنُ الله تعالى فَضْلَهُ على خَلْقِهِ في حَيَاتِهِمُ الدُّنيَا، ويُبَيِّنُ إِحْسَانَهُ لَهُم بِقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾. يَعْنِي أَوْجَبَ وقَضَى على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وفي هذا لَفتُ نَظَرٍ للمُعْرِضِينَ عَنهُ وإِخْبَارٌ لَهُم بِأَنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وأَنَّهُ لا يُعَجِّلُ بالعُقُوبَةِ، بَل يَقْبَلُ التَّوْبَةَ والإِنَابَةَ مِمَّن تَابَ وأَنَابَ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ وَضْعٌ عِنْدَهُ عَلَى الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي».
وروى أَيضَاً عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابَاً قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي؛ فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ».
وروى الشيخان عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءَاً وَاحِدَاً، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ».
ثمَّ بعدَ ذلكَ أَنْذَرَ وتَوَعَّدَ العُصَاةَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
وبناء على ذلك:
فَرَبُّنَا عزَّ وجلَّ يُبيِّنُ لِعِبَادِهِ جَمِيعَاً في حَيَاتِهِمُ الدُّنيَا أَنَّهُ رَحِيمٌ بِهِم جَمِيعَاً، فَرَحْمَتُهُ للطَّائِعِينَ في الدُّنيَا من النَّعِيمِ العَاجِلِ، وهُم على مَوْعِدٍ بالرَّحْمَةِ التَّامَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلكَ من خِلالِ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾. هذا في الحَيَاةِ الدُّنيَا ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾. هذا في الآخِرَةِ.
أَمَّا رَحْمَتُهُ بالعُصَاةِ الضالِّينَ في الحَيَاةِ الدُّنيَا فهيَ رَحْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وهيَ رَحْمَةُ إِمْهَالٍ وإِمْلاءٍ. هذا، والله تعالى أعلم.
ارسل إلى صديق |