الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالإِمَامُ الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ، هُوَ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي بِشْرٍ، بْنِ سَالِمٍ، بْنِ إِسْمَاعِيلَ، بْنِ عَبْدِ اللهِ، بْنِ مُوسَى، بْنِ بِلَالِ، بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، بْنِ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، صَاحِبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
اشْتُهِرَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في عِلْمِ الأُصُولِ وَالكَلَامِ، وَفي نُصْرَتِهِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَوُقُوفِهِ في وَجْهِ المُبْتَدِعَةِ بِأَصْنَافِهِمْ، حَتَّى صَارَ أَصْحَابُ المَذَاهِبِ الفِقْهِيَّةِ يَتَنَازَعُونَ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِمْ.
أَثْنَى عَلَيْهِ عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ العُلَمَاءِ؛ كَيْفَ لَا؟ وَهُوَ الَّذِي نَصَرَ اللهُ بِهِ السُّنَّةَ وَأَيَّدَ بِهِ المِلَّةَ، وَوَقَفَ في وَجْهِ أُمَّةِ الاعْتِزَالِ، يَوْمَ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الوُقُوفِ فِي وَجْهِهِمْ جَيْشٌ عَرَمْرَمٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ وَالعُلَمَاءِ، وَفِيمَا يَأْتِي شَذَرَاتٌ مِنْ ثَنَاءِ العُلَمَاءِ المُنْصِفِينَ عَلَيْهِ.
قَالَ عَنْهُ مُؤَرِّخُ بَغْدَادَ العَلَّامَةُ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ: الأَشْعَرِيُّ، المُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الكُتُبِ وَالتَّصَانِيفِ فِي الرَّدِّ عَلَى المُلْحِدَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَالجَهْمِيَّةِ، وَالخَوَارِجِ، وَسَائِرِ أَصْنَافِ المُبْتَدِعَةِ.
وَقَالَ الإِمَامُ البَيْهَقِيُّ: بَلَغَتِ النَّوْبَةُ إِلَى شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فَلَمْ يُحْدِثْ فِي دِينِ اللهِ حَدَثًا، وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ بِبِدْعَةٍ، بَلْ أَخَذَ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَنَصَرَهَا بِزِيَادَةِ شَرْحٍ وَتَبْيِينٍ، وَأَنَّ مَا قَالُوا وَجَاءَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْأُصُولِ صَحِيحٌ فِي الْعُقُولِ، بِخِلَافِ مَا زَعَمَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنْ أَنَّ بَعْضَهُ لَا يَسْتَقِيمُ فِي الآرَاءِ، فَكَانَ فِي بَيَانِهِ تَقْوِيَةُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَنُصْرَةُ أَقَاوِيلِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ عَنْهُ الإِمَامُ البَاقِلَّانِيُّ: أَفْضَلُ أَحْوَالِي أَنْ أَفهَمَ كَلَامَ الأَشْعَرِيِّ.
وَقَالَ الفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَتِ المُعْتَزِلَةُ قَدْ رَفَعُوا رُؤُوْسَهُمْ، حَتَّى نَشَأَ الأَشْعَرِيُّ فَحَجَرَهُمْ فِي أَقْمَاعِ السِّمْسِمِ.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَصَنَّفَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ التَّصَانِيفَ، وَأَقَامَ الحُجَجَ عَلَى إِثْبَاتِ السُّنَّةِ، وَمَا نَفَاهُ أَهْلُ البِدَعِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تعالى وَرُؤْيَتِهِ، وَقِدَمِ كَلَامِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأُمُورِ السَّمْعِ الوَارِدَةِ مِنَ الصِّرَاطِ وَالمِيزَانِ وَالشَّفَاعَةِ وَالحَوْضِ، وَفِتْنَةِ القَبْرِ الَّتِي نَفَتِ المُعْتَزِلَةُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالحَدِيثِ، فَأَقَامَ الحُجَجَ الوَاضِحَةَ عَلَيْهَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالدَّلَائِلَ الوَاضِحَةَ العَقْلِيَّةَ، وَدَفَعَ شُبَهَ المُبْتَدِعَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ المُلْحِدَةِ وَالرَّافِضَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ التَّصَانِيفَ المَبْسُوطَةَ الَّتِي نَفَعَ اللهُ بِهَا الأُمَّةَ.
أَمَّا الحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَقَدْ أَجَادَ وَأَفَادَ في الكِتَابِ القَيِّمِ الَّذِي أَفْرَدَهُ لِتَرْجَمَةِ الإِمَامِ الأَشْعَرِيِّ، فَوَفَّاهُ حَقَّهُ مِنَ الثَّنَاءِ وَالمَدِيحِ، وَجَعَلَهُ مِنَ المُجَدِّدِينَ، وَذَكَرَ أَقْوَالَ العُلَمَاءِ في مَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ العَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ في طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، حَيْثُ قَالَ عَنْهُ: شَيْخُنَا وَقُدْوَتُنَا إِلَى اللهِ تَعَالَى: الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ البَصْرِيُّ، شَيْخُ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِمَامُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَنَاصِرُ سُنَّةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، وَالذَّابُّ عَنِ الدِّينِ، وَالسَّاعِي فِي حِفْظِ عَقَائِدِ المُسْلِمِينَ، سَعْيًا يَبْقَى أَثَرُهُ إِلَى يَوْمِ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ إِمَامٌ حَبْرٌ، وَتِقِيٌّ بَرٌّ، حَمَى جَنَابَ الشَّرْعِ مِنَ الحَدِيثِ المُفْتَرَى، وَقَامَ فِي نُصْرَةِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَنَصَرَهَا نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
وَقَالَ عَنْهُ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: العَلاَّمَةُ إِمَامُ المُتَكَلِّمِين.
وَقَالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلأَبِي الحَسَنِ ذكَاءٌ مُفْرِطٌ، وَتَبَحُّرٌ فِي العِلْمِ، وَلَهُ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَتَصَانِيفُ جَمَّةٌ تَقْضِي لَهُ بِسَعَةِ العِلْمِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ، هُوَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ لِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، بِطَرِيقَتِهِ يَسْلُكُونَ، وَبِأَدِلَّتِهِ يَسْتَدِلُّونَ، وَعَلَى مِنْهَاجِهِ يَسِيرُونَ، فَرَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً، وَحَشَرَنَا مَعَهُ يَوْمَ الدِّينِ تَحْتَ لِوَاءِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَالإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَأَتْبَاعُهُ العَمُودُ الفِقْرِيُّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ بِإِذْنِ اللهِ تعالى.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يَجْزِيَهُ خَيْرَ الجَزَاءِ عَنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.